روّاد العطور يكتسبون زخماً في المنطقة وسط سعي العملاء للتميز
قيل في السابق أنه بالرغم من أن العطر لا يُرى، لكنه جزء من الزينة التي لا يمكن نسيانها. وإلى جانب السرور الذي يثيره والسمات الشخصية التي يعبّر عنها، تحوّل العطر منذ زمن بعيد إلى صناعة مدرّة للربح. إذ يتوقع أن يصل حجم سوق العطور العالمي إلى 51 مليار دولار أمريكي عام 2022، يضاف إلى ذلك النزعة المتنامية لدى العملاء لابتكار عطور مصممة خصيصًا لهم.
ويشكّل الشرق الأوسط واحداً من أسرع الأسواق نمواً في العالم، مع معدّل نموّ تراكمي سنوي يقدّر بـ7%. وعلى الرغم من أن عام 2016 كان صعباً على قطاع العطور في أفريقيا والشرق الأوسط، إلا أن المنطقة أثبتت نفسها على أنها الأكثر ديناميكيةً خلال الفترة بين 2011 و2016، محققةً معدّل نموّ سنوي تراكمي بلغ 5%، متفوّقة على كافة المناطق النامية وغيرها في طور النموّ حول العالم.
وفي هذا الإطار، بدأت العطور التي تحمل توقيع الشركات المتخصصة أو ما يعرف بالعطور «النيش» "Niche" في الاستحواذ على مساحات متزايدة في المتاجر حول العالم، مدعومة بجيل جديد من متاجر العطور ومستحضرات التجميل مثل «ليكويدز أند نوز Liquides and Nose» في باريس و«مين Min» في نيويورك و«سبايس أن كي Space.NK» في لندن. وتتميز هذه العلامات المتخصصة عن منافساتها من العطور الأخرى بتركيزها على تفرّد الرائحة والجودة العالية. وكما يشير اسمها، تستهدف العلامات المتخصصة فئةً مختارة من الناس تطمح للتميز بدلاً من شراء سلع تنتمي إلى علامة تجارية معروفة.
رائد إقليمي
إن ابتكار العطور الأنيقة ليس أمراً مستجداً على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالأخصّ في ما يتعلق بالنفحات العربية. فقد برزت الكثير من العلامات في هذا المجال على مرّ العقود الماضية، مثل عبد الصمد القرشي والعربية للعود وأجمل والرصاصي
وتعرف هذه العلامات بعطورها التي تمزج المسك والعنبر والعود. ومع ذلك، يتوجّه العطارون المحليون بشكل متزايد نحو العطور الغربية. على سبيل المثال، يتوفر عطر أمواج وهو علامة تجارية عُمانية من فئة «النيش» في الأسواق منذ 35 عاماُ ولكنه تحوّل في السنوات الإحدى عشر الماضية إلى علامة عالمية تباع في 66 دولة. وفي تصريح لومضة، قال الرئيس التنفيذي لأمواج ديفيد كريكمور: «نحن نستهدف عملاء ذوي ذوق رفيع من حول العالم، ومنتجاتنا مرغوبة عالمياً. كنّا نبيع في الخليج منذ انطلاق علامتنا التجارية، ولكننّا توسعنا مؤخراً وحققنا نجاحاً في بلاد الشام وبعض دول شمال إفريقيا.» وتشكّل سلطنة عمان السوق الأكبر لهذا العطر ومسقط رأسه، حيث لأمواج أربعة متاجر في البلاد. ويضيف كريكمور: «الإمارات مهمة أيضاً ولكن المملكة المتحدة تشكّل ثالث أهم سوق بالنسبة لنا. تليها أسواق كبيرة في الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وإيطاليا وأميركا الجنوبية.» وبحسب كريكمور فإن سوق عطور «النيش» يشهد منافسة قوية.
ويضيف: «بالطبع نحن لسنا على المستوى نفسه من حيث الحجم مثل العلامات التي تسوّق للجمهور الأوسع كـ «ديور Dior» أو «شانيل Chanel» وغيرهما، ولكن مبيعاتها تتم على نطاق مختلف تماماً وتستهدف عملاء مختلفين جداً.» تنتج أمواج أكثر من 25,000 زجاجة عطر في الشهر في معملها في عُمان وفي المملكة المتحدة. ويردف «حصتنا في سوق عطور «النيش» الفاخرة تعتبر من الأعلى.»
نهج ريادة الأعمال في سوق العطور المتخصصة
بحسب كريكمور، يستقطب قطاع العطور المتخصصة «النيش» الكثير من روّاد الأعمال الذين يطلقون مؤسسات إنتاج عطور جديدة. ويوضح أن البعض منهم قد يفشل من السنة الأولى بما أنهم لا يمتلكون ما يكفي من التمويل، بينما البعض الآخر يفقد الاهتمام نظراً لصعوبة الدخول إلى هذا المجال، بينما قد ينشئ البعض أعمالاً ناجحة في هذا المجال. من ناحية أخرى، أشار إلى أن البعض يسعون إلى إنشاء عمل تكون غايتهم بيعه في النهاية، فيما ينتهج آخرون مساراً ذا طابع شخصي أكثر وينشئون عملاً يعكس شغفهم بالعطور. ويضيف «في الحالتين، دخول هذا المجال مكلف لأنك تحتاج إلى مخزون منذ البداية، سواء في ما يتعلّق بالسلع النهائية أو المكونات، ما يتطلب الكثير من الأموال. ونصيحتي هي أن تحرص على أن يكون لديك التمويل الكافي وأن تستعد لسنوات أولى لن تحقق فيها الكثير من الربح!»
أمّا في أوروبا وأميركا فتكثر الأمثلة عن روّاد العطور. مثلاً في سان فرانسيسكو، تسعى الشركة الناشئة «بينروز Pinrose» لمساعدة العملاء على شراء العطور المتخصصة «النيش» عبر الانترنت حيث يحصل المتسوقون على خيار تجربة ثلاثة عطور مجانًا قبل دفع 50 دولاراً ثمن زجاجة عطر كاملة. أمّا «بلوم بيرفيوم لندن Bloom Perfume London » فهي شركة صناعة عطور متميزة أخرى، أطلقت عام 2015 معمل عطورها المصنّعة بحسب الطلب.
نجمة لبنانية صاعدة
وعلى الرغم من أن هذا القطاع لا يزال في مراحله الأولى في المنطقة، إلا أن روّاد الأعمال الشغوفين يتقدمون بخطى ثابتة. فقد انطلقت شركة «إيديو بارفيمور Ideo Parfumeurs» لصناعة العطور عام 2014 في منطقة الجميّزة في بيروت. وهي تحمل توقيع أنطوان بيطار الذي يعمل محللاً للإعلام العربي وزوجته لودميلا لاهلو الخبيرة في مجال العطور. يقول بيطار في مقابلة مع ومضة «لقد بدأنا شركتنا مع الشموع المعطرة ثمّ انتقلنا إلى العطور المصنوعة حسب الطلب». ويضيف «تشير أرقامنا إلى أن شخصين من أصل ثلاثة يجدون صعوبةً في شراء العطر أو إيجاد عطر يحبونه، لذا إضفاء الطابع الشخصي أمر مهم.» ويؤكد بيطار أن عطورهما المصنوعة حسب الطلب تباع بأسعار مناسبة. ويقول «يمكن أن يصل سعر العطر المصنوع تحت الطلب إلى 5 آلاف دولار، فيما نحن نبيع زجاجة الـ 100 مل مقابل 150 دولاراً، وهذا قريب جداً من الأسعار السائدة للعطور المتخصصة النيش.» وكانت الشركة أطلقت العام الماضي مجموعةً من العطور الجاهزة أيضاً، وهي تنتج عشرات الآلاف من الزجاجات في العام.
تباع عطور "إيديو بارفيمور" في كافة أرجاء أوروبا، بالأخص في فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا. ومن المتوقع طرحها في نهاية هذا العام في السوق الخليجي وروسيا.
واجه بيطار صعوبةً في العثور على المكونات ذات الجودة العالية في لبنان، ما دفعه إلى الإنتاج في فرنسا. وهو ما مكّنه أيضاً من تفادي العوائق أمام التوزيع في أوروبا. ويُعلّق بيطار قائلاً «لم نطلق منتجاتنا في لبنان بل في المملكة المتحدة لأن اللبنانيين لا يزالون يفضّلون العلامات الأجنبية، فهم مأخذون بفكرة أن الأجنبي أفضل.» ويضيف «بدأ اللبنانيون يقدّروننا اليوم أكثر بعد أن ورد اسمنا في وسائل الإعلام العالمية مثل فوغ. نحن نشعر اليوم بهذا النهج المختلف.»
أدرك الزوجان بيطار ضرورة وجود «أنف» خبير في المتجر، ما شكّل عائقاً أمامها. ومن هنا خطرت لأنطوان فكرة استغلال خلفيته المهنية من أجل تطوير آلية تسهم في تعزيز نمو تجارتهما. فابتكر تطبيق ذكاء صناعي يحاكي عمل «الأنف» ويتيح للأشخاص الذين لا يعرفون شيئاً عن العطور، ابتكار العطر الخاص بهم. ويشرح «نحن الآن نستخدم الإصدار الرابع من التطبيق وبرنامج الذكاء الصناعي يعمل جيداً جداً، محققاً نسبة نجاح تبلغ 88% مع المواد الخام التي يفضلها الناس.» وتتيح هذه التقنية للعملاء ابتكار زجاجة العطر التي يحبّونها في أقل من 25 دقيقة. إلا أن التطبيق لا يتوفر حالياً للعامة ولا يمكن استخدامه إلا في المتجر. وكشف بيطار أنّ «خطوتنا التالية في يناير المقبل هي طرح التطبيق للعامة، وإطلاق آلة تمكّنك من صنع عطرك في المنزل.»
اعتمدت "إيديو بارفيمور" على نفسها منذ البداية. ويقول «لقد استثمرت مئات آلاف الدولارات لتنمية العلامة التجارية وتطوير التقنية.» ويضيف «نحن لا نحقق الربح بعد وهذا أمر طبيعي في هذه الصناعة. ففي هذا المجال الحجم مهم جداً، ويجب أن تكون متواجداً في العدد الكافي من الدول. كما يجب عليك أن تبني علامة تجارية. وها قد بدأنا نصبح علامة يعرفها الخبراء والضلعين في هذا المجال.» وبحسب بيطار، من الصعب جداً إثبات الوجود في مجال العطور الجاهزة. «ولكن ما حققناه منذ السنة الماضية، يستغرق العلامات الأخرى نحو خمس سنوات لتحقيقه، وهذا ليس سيئاً بالنسبة لعلامة تجارية من بيروت.» وتسعى الشركة حالياً لجمع التمويل، وبالفعل تواصل معها عدد من المستثمرين المهتمين. وشرح بيطار في نهاية حديثه أن العطور المتخصصة هي الفئة الأسرع نموّاً في صناعة العطور، وهي تنمو بنسبة 20% سنوياً. وقال «بالنسبة لهذه الفئة (من العطور)، تشتري العلامات الكبرى شركات العطور المتخصصة الصغيرة، ونحن نطمح في النهاية لنكون ضمن نطاقها.»استحوذت «إيستي لودر Estee Lauder» على شركة صناعة العطور الباريسية «باي كيليان By Kilian» مقابل مبلغ لم يكشف عنه. تأسست "باي كيليان" عام 2007 وهي تبيع منتجاتها في 40 دولة حول العالم (بالأخص في أميركا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط) في متاجر مستقلة أو في مراكز تسوق فخمة. وكانت "إيستي لودر" قد استحوذت في نهاية عام 2014 على «لو لابو Le Labo» وهي علامة عطور فاخرة تتخصص بأسلوب الحياة الراقي بالإضافة إلى علامة العطور الشهيرة «إيديشون دو بيرفورم فريدريك مال Editions de Parfums Frederic Malle»
روّاد أعمال آخرون من المنطقة
جذب ابتكار العطور المختارة روّاد أعمال آخرين في المنطقة أيضاً. مثلاً ذا «فراغرنس كيتشن The Fragrance Kitchen« الكويتية هي علامة تجارية جديدة في عالم العطور أطلقها الشيخ ماجد الصباح عام 2005. وهي تعيد إحياء النفحات الشرقية التقليدية مثل العود وورد الطائف ضمن زجاجة عصرية.
عمر الحولي الشريك المؤسس لشركة "أوديكت Odict" وهي علامة تجارية كويتية أخرى في مجال العطور المتخصصة «النيش». كذلك طرحت صانعة العطور الإماراتية آمنة الحبتور علامتها أركاديا مقدمة مثالاً آخر على ريادة الأعمال في مجال ابتكار العطور التي تتجاوز منطقتها لتستهدف الأسواق العالمية. ويتميز صانعو العطور الشباب هؤلاء باعتماد تصاميم زجاجات بسيطة وبخلطات عطرية نضرة وعصرية.
ومع وصول هذه العطور إلى الأسواق العالمية وزيادة تقدير الأسواق الغربية لهذه العطور الشرقية، هل سينجح روّاد الأعمال أولئك في جذب عملاء العطور المتخصصة «النيش» على مستوى أوسع؟