الابتكار الحقيقي يمكن أن يحدث من الداخل فقط: الرعاية الصحّية نموذجاً
نُشِرَت هذه المقالة أساساً على "فيجن" Vision.ae.
دُعيتُ في الآونة الأخيرة للحديث عن الابتكار في الرعاية الصحّية في الأسواق الناشئة، في فعالية "طبّ العظام الرقمي" Digital Orthopaedics التي نظّمَتها "الجمعية الملكية للطب" Royal Society of Medicine في لندن. بطبيعة الحال، كنتُ أنا أكثر شخصٍ دخيلٍ يتحدّث عن التكنولوجيا أمام الأطبّاء، لذلك كان من دواعي سروري أن يتحدّث الدكتور شافي أحمد فبل العرض الذي قدّمتُه – وهو الجرّاح الأوّل الذي يروّج للجراحة بتقنية الواقع الافتراضيّ VR Surgery – والدكتور أكسل سيلفان، طبيب العظم الذي أصبح رائد أعمال والشريك المؤسّس لشركة "ماي ريكوفيري" MyRecovery.ai.
بدأتُ حديثي مع صورةٍ لمارك زوكربيرج خلال زيارته الأخيرة إلى كينيا "للتعلّم عن كيفية تحقيق المال على الأجهزة المحمولة"، فكانت بمثابة مدخلٍ أنيقٍ إلى الموضوع الذي أردتُ التطرّق إليه.
من المُتعارَف عليه أنّ الابتكار في تكنولوجيا الطبّ ينشأ في الأسواق المتقدّمة، ثمّ يُصدّر فيما بعد إلى الأسواق النامية، ولكنّني أردتُ أن أُظهِر كيف يمكن للأسواق النامية أن تكون محفّزاً على الابتكار.
في الكثير من هذه الأسواق الأخيرة، تكون الفجوة بين نموّ السكّان السريع ومحدودية البنى التحتية للرعاية الصحّية كبيرة، ولكنّها اليوم تصبح الحافز الأساسيّ للابتكار المحلّيّ في مجال الطبّ. كما أنّها لم تعد تستورد الابتكار من "أودية السيلكون" المنتشرة في العالم المتقدّم، ولم تعد فقط مستورِدةً للمساعدات من الخارج، بل إنّ هذه الأسواق النامية باتت تشكّل الفرصة التجارية الكبيرة المقبلة.
المقاربة القائمة على التصدير للأسواق النامية، كانت مكلفةً وغير فعّالة. فالتكنولوجيا المصمّمة للعالم المتقدّم فشلَت في مواجهة التحدّيات التي تطرحها بيئة العمل في البلدان الأقلّ تقدّماً؛ مثل عدم القدرة على التنبّؤ بإمدادات الطاقة، ومجموع العاملين غير المدرّبين، والمسائل البيئية مثل الرطوبة والغبار. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ كلفة الصيانة المتصوّرة للبلدان المتقدّمة لم تكن مستدامةً في هذا الإطار. وممّا يثير الدهشة أنّ ما يزيد عن 70% من الأجهزة الطبية تُصبح من دون عملٍ في مستشفيات العالم النامي.
وقد حاول كبار الصانعين حلّ هذه المشكلة من خلال تجريد أجهزتهم من الميزات التي لا داعي لها، من أجل جعلها أرخص وأقلّ تعقيداً. ولكن ما يُعرَف بـ"الابتكار الرخيص" frugal innovation سرعان ما أثبَت أنّه دون المستوى الأمثل.
بدا أنّ الابتكار الحقيقيّ يمكن أن يحدث فقط من الداخل، وبتحفيزٍ من صنّاع التغيير الذين يعرفون التحدّيات والموارد المتاحة في بيئاتهم معرفةً وثيقة.
هذا الأمر صعبٌ بالطبع في قطاع الأجهزة الطبّية التقليدية، ولكن يمكن تحقيقه في مجال الرعاية الصحّية الرقمية. وذلك لأنّ جمال التكنولوجيا الرقمية يكمن في إزالتها للكثير من الحواجز التي تقف عقبةً أمام ما يُطرَح حديثاً من تكنولوجيا طبّية، بفضل الأكلاف المتدنّية وسهولة الحصول عليها. فالتكنولوجيا الطبّية التي تستخدِم شبكات الهواتف، على سبيل المثال، هي أكثر سهولة من حيث الحصول عليها في البلدان التي يصعب فيها الوصول إلى المرافق الصحّية.
من الأمثلة المهمّة على ذلك، "إي هيلث أفريقيا" eHealth Africa التي تتّخذ من نيجيريا مقرّاً لها، والتي تقدّم تطبيقاً يساعد المعنيّين بالحالات الاجتماعية على تقفّي أثر الناس الذين كانوا على اتّصالٍ بمرضى "إيبولا" Ebola. والنتيجة؟ تقليص وقت إنشاء التقارير وإرسالها بنسبة 75%.
وفي رواندا، طوّرَت "تراك نت" TRACnet نظاماً معلوماتياً مصمّماً لجمع ونشر المعلومات ذات الصلة بعلاج ورعاية مرضى فيروس نقص المناعة البشرية HIV والإيدز AIDS، بحيث تمكّن الأخصّائيون من إرسال التقارير إلى قاعدة بياناتٍ مركزيةٍ وكذلك الوصول في الوقت المناسب إلى معلوماتٍ حيويةٍ من خلال هواتف محمولة تُشحَن بالطاقة الشمسية.
في كلتا الحالتَين، فإنّ تطوير نظامٍ يأخذ في الحسبان الاعتبارات المحلّية ويَستخدِم البيانات المجمّعة محلّياً كان أساسياً لتحقيق النجاح.
تجدر الإشارة إلى أنّ الأوبئة ليست المحرّك الوحيد للابتكار، فالنموّ الاقتصاديّ الذي أدّى إلى انفجارٍ السكاني في الأسواق الناشئة خلق زيادةً في الطلب على خدمات الرعاية الصحّية.
مع انتقال المزيد من سكّان المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، تصبح أساليب العيش أكثر خمولاً ما يؤدّي إلى رفع نسب الإصابة بالأمراض غير المعدية NCDs. وفيما من المتوقع أن يعيش 80% من مرضى السكّريّ في العالم في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسّطة الدخل، فإنّ الوفيات المرتبطة بالأمراض غير المعدية سينتج 80% منها عن البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسّط.
الطلب كبيرٌ جدّاً، ولكن ماذا عن العرض؟ إنّه متأخّر على جميع المستويات. يوجد في نيجيريا 4 أطبّاء و16 ممرّضاً لكلّ 10 آلاف نسمة، مقارنةً بـ28 طبيباً و98 ممرّضاً للعدد نفسه من السكّان في المملكة المتّحدة. وذلك علماً أنّ مساحة نيجيريا التي تبلغ 923 ألفاً و768 كيلومتراً مربّعاً ويعيش عليها ما يصل إلى 174 مليون نسمة، أكبر بثلاث مرّاتٍ من مساحة المملكة المتّحدة التي تضمّ 68 مليون نسمة.
سيكون من الصعب جدّاً اعتماد النموذج التقليديّ لتوفير البنى التحتية والخدمات، من وحدات الرعاية الصحّية الأوّلية إلى مراكز الأشعّة والمختبرات. والحلّ؟ أن ندعم الرعاية الصحّية من خلال نماذج وخدمات مبتكرة تشمل التطبيب عن بُعد telemedicine، والتصوير الشعاعيّ عن بُعد teleradiology، وتقديم الرعاية الصحّية الأوّلية.
بالنظر إلى تدريب أخصّائيّي الأشعّة عن بُعد، فإنّ إثيوبيا يوجد لديها أخصّائيّ أشعّةٍ واحدٌ مدرّبٌ لكلّ مليون نسمة. ومع سكّانٍ يصل عددهم إلى 94 مليون نسمة، يحتاج هذا البلد إلى المزيد من أخصّائيّي الأشعّة والأدوات اللازمة لتدريب الجيل القادم. في حين يُعدّ استيراد أصحاب المواهب مكلفاً، يتمّ إرسال بعض الأشخاص المميّزين إلى الخارج للدراسة غير أنّ عدداً منهم لن يريد العودة. إذاً كيف نسدّ هذه الفجوة؟ فيما يمكن للتصوير الشعاعيّ عن بُعد أن يكون أسرع وأن يكون حلّاً على المدى القصير، إلّا أنّ التدريب عن بُعد teletraining يوفّر حلّاً مقنعاً على المدى الطويل.
علاوةً على ذلك، فإنّ زيادة الاعتماد على هذه التقنية لا تتطلّب خدمة إنترنت عريض النطاق. فكون الحاجة أمّ الاختراع، تؤدّي محدودية الإنترنت عريض النطاق إلى دفع المبدعين لتحسين التطبيقات كي تعمل على شبكات الجيل الثاني 2G.
الطلب المتزايد؛ والعرض المنخفض؛ والدخل المتنامي؛ وارتفاع نسبة استخدام الهاتف المحمول؛ كلّها مؤشرات تدلّ على إمكانية أن تصلح الاقتصادات الناشئة قاعدةً لاختبار الابتكار.
من يدري، قد تكون رحلة زوكربيرج التالية إلى شرق أفريقيا من أجل الحصول على شهادة ماجستير في الرعاية الصحّية الرقمية.