التكنولوجيا تزيد أو تقلّص التفاوت في توزيع الثروات؟
التطور التكنولوجي لا يتوقّف منذ القرن الناسع عشر، لكنّ وتيرته تسارعَت منذ انتشار الإنترنت في أوائل تسعينات القرن العشرين. وفي حين ترافق ذلك مع الحديث عن إلغاء التكنولوجيا للكثير من الوظائف وزيادة التفاوت في الثروات، يشير البعض إلى وجود طرقٍ يمكن فيها الاستفادة من التكنولوجيا نفسها لتقليص الفجوة. كيف يظهر الأمر في المنطقة وهل تستطيع المبادرات وحدها أن تكون حلّاً؟
يقول الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينج في ردٍّ على سؤالٍ إنّ "الآلات تُنتِج كلّ ما نحتاجه، لذا تتوقّف النتيجة على كيفية توزيع الأمور، والتكنولوجيا مسؤولة جزئياً عن زيادة التفاوت في الثروات، "مشيراً إلى أنّ "معظم الناس سيصبحون فقراء إذا ما تكتّل أصحاب الآلات ضدّ إعادة توزيع الثورة".
كما أنّ أستاذ الإدارة في كلّية "سلون" Sloan School التابعة لـ"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" MIT، إريك براينجولفسن، يشير بوضوح في حديثٍ مع "تكنولوجي ريفيو" Technology Review إلى أنّ "التكنولوجيا هي العامل الأكبر للزيادات الأخيرة في نسب التفاوت بحسب قراءتي للبيانات".
وبالفعل، فقد ساهمَت التكنولوجيا في الاستغناء عن الكثير من الوظائف مع الانتقال إلى التصنيع الآليّ وصولاً إلى السيارات ذاتية القيادة. ولكن "خلال السنوات الـ144 الماضية، أوجدَت التكنولوجيا فرص عمل أكثر من التي دمّرتها، منقذةً البشرية من الأعمال الشاقّة والقذرة والخطرة،" بحسب دراسةٍ أعدّها باحثون في "ديلويت" Deloitte لتقييم مدى تأثير التغير التكنولوجي على العمل في إنجلترا وويلز.
هذا الجدال ليس جديداً، إنّما الآن بات أكثر تعقيداً في عالم ما بعد الإنترنت، لأنّ الإنترنت التي لم تعد تقتصر على الحواسيب، ستكون متّصلةً بكلّ ما يحيط بنا تقريباً بفضل إنترنت الأشياء، مغيّرةً بذلك الكثير من أساليب العمل التي كانت تعتبر متطوّرةً جدّاً حتّى قبل عشر سنوات.
وعليه، فإنّه "مع التقدّم التكنولوجي ستزيد ثروات البعض، لكنّ ذلك سيوفّر الكثير من فرص العمل للآخرين"، كما يقول الخبير في الرعاية الصحّية، رولان ضاهر، في حديثٍ له مع "ومضة".
يعود ذلك بحسب بحسب الصحافية الاقتصادية رشا أبو زكي إلى أنّ هذا التقدّم التكنولوجي يُحدث تغييرات جذرية في نمط العمل، وبالتالي لا بدّ من مقاربةٍ أخرى لهذا الموضوع تتخطّى فكرة توليد الوظائف أو القضاء عليها. "وفي ظلّ الثورة التكنولوجية الحاصلة تختلف طبيعة العمل تماماً، من الإنتاج المعتمِد على الجهد البدنيّ في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، إلى إنتاجٍ يعتمد أساساً على الجهد الفكريّ".
وعلى صعيد الشركات الناشئة التي تُعنى بالتكنولوجيا في العالم وحتّى في المنطقة العربية، فهي تقوم باختراق الوظائف التي تتطلّب جهداً فكريّاً - مثل الرعاية الصحّية والمحاسبة والمحاماة - وأصبح الأمر يتطلّب وجود مهاراتٍ تختلف عمّا قبل، أو وجود درايةٍ أكثر والتمتّع بقدرةٍ أكبر على التعامل مع التكنولوجيا.
التفاوت واضح رغم كلّ شيء
لا شكّ أنّ توزيع الثروات يتفاوت بين البلدان وحتّى ضمن البلد الواحد، ويظهر هذا جليّاً على صعيد العالم، ففي عام 2015 امتلك 62 فرداً ثروةً تساوي ما يمتلكه 3.6 مليارات نسمة مرتفعةً بنسبة 45% عمّا كانت عليه في عام 2010، في حين انخفضت ثروات النصف الأفقر من العالم بنسبة 38%، بحسب "أوكسفام" Oxfam.
ومع ذلك، بالإضافة إلى مسألة فقدان الكثير لفرص العمل نتيجة التطوّر التكنولوجي وتبدّل المهارات المطلوبة، لا يمكن أيضاً تجاهل التفاوت في الأجور.
في هذا الشأن، ترى رنا الشميطلّي، مؤسِّسة "المهندس الصغير" The Little Engineer التي تقدّم مقرّراتٍ في الهندسة مخصّصةً للأطفال، أنّ التكنولوجيا لا تأخذ مكان أحدٍ بالكامل. وذلك، كما تشرح في حديثٍ لـ"ومضة"، لأنّ هناك حاجة إلى لإنسان كي يتّخذ القرار مهما كثر الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ"
على سبيل المثال، في وادي السيلكون في الولايات المتحدة الذي يُعتبر مهد التكنولوجيا الحديثة، بلغ معدّل الرواتب في عام 2013 نحو 94 ألف دولار أميركي بينما يُقدّر أنّ 31% من الوظائف تدفع 16 دولاراً أو أقلّ للساعة الواحدة ما يعتبر راتباً عير عادلٍ في منطقةٍ تشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار بدلات السكن. وفي الهند، يحوز رئيسٌ تنفيذيّ لشركةٍ تُعنى بتكنولوجيا المعلومات على راتبٍ أعلى بـ416 مرّة من راتب موظّفٍ عاديّ في الشركة نفسها.
في منطقة الشرق الأوسط التفاوت أعلى بكثير ممّا هو عليه في الولايات المتحدة وأوروبا، بحسب تقريرٍ صدر عن "منتدى البحوث الاقتصادية" Economic Research Forum في عام 2014، ويقارب أعلى معدّلات التفاوت في المناطق النامية الأخرى. ووفقاً للتقرير، يحوز الـ10% الأوائل من أصحاب الدخل على 55% من مجمل الدخل في الشرق الأوسط، في حين تحصل هذه الفئة على 45% من مجمل الدخل في الولايات المتحدة و35% في أوروبا الغربية.
’العقول العاملة‘ والمهارات المطلوبة
تغيُّر نمط الإنتاج سريعاً ينشئ وظائف جديدة، إنّما يترك مَن تخلّف عن الركب من دون عمل إلى أن يطوّر مهاراته. ولكن دون الأمر صعوباتٌ جمّة، خصوصاً في المناطق النامية مثل المنطقة العربية، ليس أقلّها التفاوت بين البلدان وحتّى ضمن البلد الواحد في إمكانية الوصول إلى خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبطء سرعات الإنترنت، بالإضافة إلى وجود أنظمة تعليمٍ بالية أو سيئة لا تمكّن الشباب من تحضير أنفسهم لسوق العمل المقبلة.
وبالتالي سيؤدّي هذا إلى "هجرة العقول المتخصّصة في مجتمعاتنا نحو الأسواق التي تقدّر الإبداع،" على حدّ قول أبو زكي التي تضيف أنّ "اقتصادات المعرفة ستخلق المزيد من الترَكُّز والمزيد من التفاوت لأنّ تركُّز الثروة المادية مرتبط بتركّز الثروة المعرفية" على صعيد البلدان والأفراد. (68% من الشركات الناشئة يجدون صعوبةً في الحصول على أصحاب المهارات المناسبة في المنطقة)
على صعيد الاتّصال بالإنترنت، يصل عدد الناس غير المتّصلين في العالم العربي إلى 58.4% وأفريقيا 74.9%، بحسب تقرير "الاتحاد الدولي للاتصالات" ITU عن تكنولوجيا المعلومات، في حين تبلغ نسبتهم في أوروبا إلى 20.9% والأميركيّتَين 35%.
وهذا ليس أمراً جيّداً، لأنّ التكنولوجيا قد غيّرَت مفهوم التعليم والعمل بالكامل. ففي حين تتّجه الرعاية الصحّية لتحتلّ مكاناً بارزاً على الإنترنت، على الطبيب أن يكون ملمّاً بكيفية التعامل مع المنصّات الإلكترونية وأبسط قواعد البرمجة، كما يذكر ضاهر، وذلك لأنّنا سنصبح في عصرٍ "ينبغي أن نكون فيه كلّنا مبرمجون، مبرمجون يتعلّمون الطبّ، أو الهندسة، أو أيّ اختصاصٍ آخر".
في هذا الصدد، تسعى "المهندس الصغير" إلى تعليم الأطفال منحى 'العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات' STEM إضافة إلى البرمجة والترميز، ومؤخراً علم النانو، حتّى وصل عدد الطلّاب الذين استفادوا من خدماتها إلى 27 ألفاً.
ترى الشميطلي أنّ "الوعي موجود، ولكنّ التحدّي الأساسيّ يكمن في البنى التحتية، خصوصاً جودة خدمات الإنترنت والنقص في المهارات الذي لا يقتصر على اليد (أو العقول) العاملة، بل يطال المربّين والمدرّسين الذين يمكن أن ينقلوا المعارف المتطوّرة للأطفال"، حيث ظهرَت حاجةٌ جديدة تتمثّل في تعليم أساتذة المدارس وأرباب العمل.
حلول مباشرة وغير مباشرة
في نهاية المطاف، سيؤدّي الأمر إلى المزيد من التفاوت في توزيع الثروات من جديد، كون فرص الحصول على هذا النوع من التعليم أو البنى التحتية ليست متساوية أساساً.
ولكن بالرغم من ذلك، ستؤمّن الإنترنت الكثير من الفرص التي تمكّن البلدان ذات الدخل المنخفض والقدرات الصناعية الضئيلة من بناء مجتمعٍ رقميٍّ يوفّر فرص العمل ويسهّل تأسيس مشاريع لا تحتاج إلى أصولٍ ثابتةٍ تقريباً تكون قابلةً للانتشار والتوسّع إقليمياً أو عالمياً، إضافةً إلى فرص العمل عن بُعد.
في هذا الإطار، لا يرى ضاهر في البنى التحتية مشكلةً مزمنة متوقّعاً تخطّي ذلك خلال عشر سنوات، إذ ستصل هذه الشبكة إلى أغلب المناطق خصوصاً مع مناطيد "جوجل" Google وطائرات "فايسبوك" Facebook. ومع التقنيات الحديثة، مثل الواقع الافتراضي VR والواقع المعزّز AR، أصبح بالإمكان إيصال العلوم الطبية الحديثة إلى الناس في المناطق الأكثر فقراً "دون الحاجة إلى تنشئة جيلٍ كاملٍ والانتظار 18 عاماً".
ويمكن أن يظهر هذا جليّاً في قطاع الرعاية الصحّية على سبيل المثال، وهو الذي يشهد ثورةً من خلال منصّات الويب وإنترنت الأشياء التي توفّر سواء الاستشارات الطبية عن بُعد أو الخدمات الفعلية أو الإغاثة بفضل الطائرات بدون طيار.
تذكر أبو زكي أنّه مع اعتماد التكنولوجيا ستتزايد أرباح المؤسَّسات من ناحية التخلّي عن عدد من الوظائف التي يقوم بها البشر، ولكنّ نفقاتها سترتفع على التقنيات الحديثة في إدارة المؤسّسات وآلية العمل الوظيفي بشكلٍ عام.
أمّا ضاهر فيؤكّد أنّ هذه التقنيات يمكن أن تخفض أجور العاملين في القطاع الطبّي فرضاً، لكنّها ستخفّض تكاليف الرعاية الصحية كما ستوفّر الكثير من فرص العمل للأخصّائيين الذين قد لا يجدون عملاً، ويشرح قائلاً: "لن تحتاج للذهاب إلى المستشفى ودفع الكثير من المال مقابل رعايةٍ يمكن أن تتلقّاها في المنزل، ولن تحتاج إلى زيارة طبيبٍ تدفع له في كلّ مرّة 200 دولار فيما يمكنك الاستفادة من هذه الخدمات مقابل 10 دولارات على المنصّة الإلكترونية".
نحو مجتمعٍ أكثر تعاوناً: تسخير التكنولوجيا لتقليص التفاوت في الثروات
تَرَكُّز الثروة المادية مرتبط بترَكُّز الثروة المعرفية، وبالتالي لن يكون هناك تقليصٌ في التفاوت إن لم يتمّ الاعتراف به أوّلاً، ومن ثمّ إعادة هيكلة نمط الإنتاج الحديث ليصبح أكثر عدالة، على حدّ تعبير أبو زكي.
وعن سبُل إعادة توزيع الثروة، كتب أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسون، تايلور كوين، في مقالةٍ له عام 2014، أنّه فيما لم تقم التكنولوجيا بالكثير من حيث تخفيض تكاليف الرعاية الصحية والتعليم يمكن أن يتغيّر هذا مع العقود القليلة المقبلة. لذلك لا بدّ من اتّخاذ عدّة خطوات تسمح بإعادة توزيع الثروة والحدّ من البطالة من خلال التكنولوجيا نفسها، أهمّها توفير الرعاية الصحّية الرخيصة، والتعليم الميسور، والشفافية في التسعير، وتقديم خدماتٍ جديدة ورخيصة، وتسهيل العيش مع الاقتصاد التشاركي خصوصاً في السكن، وفرض ضرائب على ذوي الدخل المرتفع، بالإضافة إلى تعليم هذه المهارات لزيادة أعداد العمّال المهرة بحيث أنّ الروبوتات التي تحتلّ مكان الإنسان تُنشئ وظائف لتطويرها وبرمجتها وصيانتها.
يوافق ضاهر على هذا الأمر، لافتاً إلى أنّ التكنولوجيا قد تسبّب بطالةً آنية لكنّها توفّر فرص عملٍ على المدى الطويل. ويضيف أنّ "التكنولوجيا تتخطّى الجغرافيا، فالرعاية الصحّية الرقمية قادرةٌ على الوصول إلى الكثير من المناطق النائية والحضرية باستمرار، وبعد انتشارها تصبح الأسعار أرخص كما يمكن جمع الكثير من البيانات حول مرضٍ معيّن لدراسته وإيجاد العلاجات المناسبة".
لا ينسى الخبير في أعمال الرعاية الصحّية الإشارة إلى دور الحكومة أيضاً، فيذكر كمثالٍ سويسرا التي طرحَت الاستفتاء على فرض حدّ أدنى للأجور فرُفض الأمر. يوضِح أنّ "هذا مؤشّرٌ عمّا ستؤول إليه الأمور في المستقبل، فليس هناك ما يمنع المبتكرين من أن يصبحوا أثرياء ولكنّ الحكومات قد تحتاج إلى تبنّي سياساتٍ اجتماعية مثل عملية فرض حدّ أدنى للدخل".
في هذا الإطار تعمل "المهندس الصغير" على تهيئة الجيل المقبل من ‘العقول العاملة‘، عبر تعليم الأطفال (وتثقيف الكبار) حول الهندسة والبرمجة. ولكن في ظلّ الأسعار المرتفعة نسبياً بالنسبة إلى الأهل، ترى الشميطلي أنّه ينبغي على الحكومة أن تتدخّل أيضاً لدعم هكذا مبادرات، مثلما تفعل حكومات الإمارات وقطر وسواهما.
ومن الأمثلة على التعاون في المنطقة لتأسيس جيلٍ أكثر مهارةً وتحسين حياة الناس باستخدام التكنولوجيا، يوجد عدّة مبادرات مثل منصات التعليم الإلكترونية، ومساحات الصنّاع، وقطاع النقل التشاركي، ورسم الخرائط التفاعلية، وغيرها.
وكذلك ورشة عمل "مختبر الميديا" في "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا" MIT Media Lab Dubai workshop حول إعادة تعريف المدن، والتي ينظّمها "مجتمع جميل" و"ومضة" بقيادة مصمِّمين ومهندسين وعلماء وفنانين، من 29 آب/اغسطس حتى 2 أيلول/سبتمبر.