المصرفية المفتوحة: الفرص والمشكلات [الجزء الثاني]
طرحنا في الجزء الأول من هذا المقال مفهوم الخدمات المصرفية المفتوحة، ونلقي في هذا الجزء نظرة فاحصة على المشهد التنظيمي.
لقد شهدت الخدمات المصرفية المفتوحة تقدماً بطريقتين مختلفتين حول العالم: إما عن طريق اللوائح التي أجبرت البنوك التقليدية على الاعتراف بهذه الخدمات والعمل مع الشركات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا المالية، وإما بدافع الخوف من التخلف في السباق التكنولوجي نحو الابتكار. وتنطبق الطريقة الأولى على الاتحاد الأوروبي الذي فرضت فيه الهيئة الحاكمة لوائح تنظيمية بشأن الخدمات المصرفية المفتوحة، أما في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا توجد فيها لوائح من هذا القبيل، فقد أقامت البنوك الحالية شراكات مع مُقدِّمي الخدمات المصرفية المفتوحة من أجل مواكبة التطور والابتكار.
وتوجد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مبادرات متنوعة لدعم شركات التكنولوجيا المالية في مجال الخدمات المصرفية المفتوحة، ولكن لم تقم حتى الآن الجهات التنظيمية في شتى أنحاء المنطقة، ما عدا البحرين، بوضع وتطبيق أطر عمل للخدمات المصرفية المفتوحة.
يقول سمير ساتشو، مستشار السياسة العامة لشركات التكنولوجيا المالية في منطقة الشرق الأوسط: "حينما يقرأ المرء تقارير أو أخباراً عن التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يشعر أنه مجال مزدهر. فهناك استثمار في الشركات الناشئة، والصورة التي تُعرض صورة وردية للغاية. ولكن المنطقة تتكون من تعددية تشريعية متفاوتة، وتتحرك بعض الدول بشكل أسرع من غيرها".
وتُحدِّد الأطر التنظيمية للخدمات المصرفية المفتوحة معايير تُضفي الطابع الديمقراطي على الخدمات المصرفية بشكل فعال وتُشجِّع على الابتكار المالي لصالح المستهلكين. وبسبب تباين القواعد التنظيمية، يختلف التقدم المُحرَز نحو مشاركة البنوك للبيانات باختلاف الدولة، ويتوقف على الهياكل السوقية ومواقف المستهلكين إزاء الخصوصية والأمن.
يقول سمير: "تتوقف الخدمات المصرفية المفتوحة على قيام جهة تنظيمية بإلزام المصارف بفتح أبواب أنظمتها أمام مقدمي الخدمات قبل حلول تاريخ معين. فذلك يقضي على مسألة عدم اليقين القانوني".
المشهد التنظيمي
كانت البحرين أول بلد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يضع لوائح تنص على تبنّي جميع مصارف التجزئة للخدمات المصرفية المفتوحة. ففرض مصرف البحرين المركزي الخدمات المصرفية المفتوحة، ومنح المصارف التقليدية ستة أشهر للامتثال للوائح، وقد بدأ الآن العمل بها. وعلى عكس الدول الأخرى، كان على كل مصرف في البحرين أن يفتح أبواب واجهاته البرمجية (APIs)، لأن المصرف المركزي ألزم المصارف هناك بنشر كل ما لديها من بيانات عن العملاء من خلال هذه الواجهات البرمجية.
وكانت شركة «بوابة ترابط» أول شركة تحصل على ترخيص للخدمات المصرفية المفتوحة في البحرين، واستغرقت هذه الشركة الناشئة ثلاث سنوات لربط منصتها بجميع المؤسسات المالية الموجودة في البحرين. يقول عبد الله المؤيد، المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة: "«بوابة ترابط» هي قاعدة بنية تحتية مشتركة للواجهات البرمجية تجمع كل المؤسسات المالية على منصة واحدة – فهي تجمع البيانات من جميع المؤسسات المالية وتنشئ سوقاً بين المؤسسات المالية. واللوائح التنظيمية في البحرين هي التي تقود الابتكار. فتخفيف القيود يسمح بالابتكار".
وقد توسعت «بوابة ترابط» حالياً خارج البحرين، وأنشأت مكتباً في أبوظبي في إطار سوق أبوظبي العالمي (ADGM) وفي مركز دبي المالي العالمي (DIFC)، على الرغم من أنها لم تضم أو أو تُقِمْ شراكة مع أي مصرف في دولة الإمارات حتى الآن.
يقول عبد الله: "إننا نقدم عرضاً أكثر تنافسيةً وتركيزاً على العملاء، وليس لدينا أي نية لإطلاق تطبيق مستقل للتنافس مع المصارف. إنها منصة مشتركة بكل المقاييس – فيها البنوك من ناحية وشركات التكنولوجيا المالية من ناحية أخرى. وهذه البنية التحتية الجديدة ستسمح للمصارف بإنشاء منتجات حقيقية ومُخصَّصة تلائم الأشخاص بناءً على عاداتهم".
ويدل نجاح شركة «بوابة ترابط» الحالي على أن الجهة التنظيمية إذا راقت لها الفكرة، فيمكنها أن تدفع بها إلى الأمام بسرعة. يقول سمير ساتشو: "تُعدّ البحرين منارةً تسترشد بها بلدان المنطقة فيما يخص كيفية التنفيذ، ولكن المسألة تكمن في أنها بلد قليل السكان. وقد لا تكون البحرين هي السوق المناسبة من منظور أي مستثمر أو شركة ناشئة تسعى إلى التوسع. ولكنها قد تكون سوقاً جديرة بالاهتمام عند الرغبة في إظهار الابتكارات لجميع بلدان المنطقة".
وفي السعودية، أصدر البنك المركزي السعودي (ساما) «سياسة المصرفية المفتوحة» لتمكين عملاء البنوك من إدارة حساباتهم البنكية، ومشاركة البيانات بشكل آمن، حيث يتاح للعملاء السماح للطرف الثالث من مزودي الخدمات بالوصول إلى المعلومات البنكية الخاصة به، ليفتح بذلك المجال أمام جهات جديدة لتقديم الخدمات المالية.
وفي وقت سابق، أطلق ساما مبادرة "فنتك السعودية" للنهوض بنظام التكنولوجيا المالية والسماح بمنح تراخيص لخدمات بدء الدفع وخدمات معلومات الحساب. يقول سمير ساتشو: "على مدار الاثني عشر شهراً الماضية، اتخذت السعودية خطوات كبيرة إلى الأمام فيما يتعلق بالسماح بأنواع جديدة من شركات الدفع، وذلك من خلال لائحتها الجديدة الخاصة بمُقدمي خدمة الدفع".
وأصدر بنك الكويت المركزي إرشادات تنظيمية للشركات الراغبة في تجربة منتجات وخدمات التكنولوجيا المالية الجديدة. وأطلق البنك المركزي المصري بيئة تجريبية تنظيمية كحقل تجارب للشركات الناشئة التي تعمل على تطوير نماذج مصرفية جديدة ولكن تعوقها حالياً متطلبات الترخيص الصارمة وعدم اليقين التنظيمي.
وتوصلت دراسة استقصائية حديثة أجرتها شركة Finastra إلى أن الأنظمة القديمة واللوائح المعقدة وتغير الثقافة وتقلص التحكم في اتخاذ القرارات من أهم العوائق التي تعرقل التعاون في مجال التكنولوجيا المالية في دولة الإمارات. وقد قام مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي بإسناد الابتكار المتعلق بالأطر التنظيمية إلى جهتين خارجيتين من الجهات التنظيمية، ألا وهما هيئة تنظيم الخدمات المالية (FSRA) وسلطة دبي للخدمات المالية (DFSA)، إلا أن هاتين الهيئتين الخارجيتين ليست لهما سلطة على المصارف المُرخَّصة من المصرف المركزي. ولذلك كان يُنظَر إلى ترخيص هاتين الهيئتين على أنه مبادئ توجيهية استشارية وليست لوائح، مما أحدث حالةً من عدم اليقين القانوني الذي يُحيِّر كلاً من شركات التكنولوجيا المالية والمستثمرين.
يقول محمد عزيز، المؤسس المشارك لشركة DAPI التي يقع مقرها في دولة الإمارات وتوفر بنية تحتية مالية وواجهة برمجية تسمح لشركات التكنولوجيا المالية والبنوك الإلكترونية الأخرى بتقديم خدماتها: "على الرغم من أننا نخضع حالياً للوائح سوق أبوظبي العالمي، فإن المصارف الموجودة داخل الإمارات لا تعتبرها جهةً تنظيمية، ولا يعنيها سوى موافقة المصرف المركزي". وقد واجهت هذه الشركة الناشئة صعوباتٍ في المنطقة بسبب الافتقار إلى لوائح موحدة، فكتب محمد عزيز خطاباً مفتوحاً إلى المجلس الاستشاري لاتحاد مصارف الإمارات لحثِّهم على اعتماد الخدمات المصرفية المفتوحة.
يقول محمد عزيز: "تعتبرنا [المصارفُ] سبب خسارتها للعملاء الذين اتجهوا إلى تطبيقات التكنولوجيا المالية، ولكن هذه نظرة ضيقة للأمر، أما الناظر إلى الصورة الأكبر فسيرى نهجاً تعاونياً. ومنذ انطلاق شركتنا، تأتينا مصارف تحاول أن تدفعنا إلى إغلاق الشركة. ودائماً ما كانت المصارف تمارس ضغوطاً على الخدمات المصرفية المفتوحة في أوروبا والمملكة المتحدة وفي كل مكان تقريباً. فليس ذلك بالأمر الغريب، ولكن يتوقف الأمر على الجهة التنظيمية الداعمة للقضية".
وعلى الرغم من عدم وجود أي لائحة تنص على أن الخدمات المصرفية المفتوحة مخالفة للقانون، لا توجد في المنطقة مبادئ توجيهية واضحة تجعل الشركات والمستثمرين يقتحمون هذا المجال بثقة ويتلقون الدعم اللازم.
يقول محمد عزيز: "يكمن الخطر في قيام الجهة التنظيمية باتخاذ إجراءات ضد التكنولوجيا في هذه المرحلة. ومع ذلك، فإننا لا نعتمد على سوق واحدة فقط. لقد أقمنا بالفعل صلات وروابط في ستة بلدان، منها باكستان، وأوشكنا الآن على الانطلاق في مصر، كما قطعنا شوطاً طويلاً في المملكة العربية السعودية. ولأن الإمارات هي السوق التي انطلقنا منها، فإننا نأمل أن تدرك الجهات التنظيمية هذا الأمر وتسير الأمور على ما يرام. وإذا لم يحدث ذلك، فلن تكون صفقة ضخمة بالنسبة لنا لأننا نتحوط من مخاطرنا بالأسواق البديلة على أي حال".
هل اللوائح عذر مقبول؟
يرى محمد عكاشة، الشريك المؤسس لصندوق DisrupTECH – وهو صندوق للتكنولوجيا المالية أُنشئ مؤخراً وينصب تركيزه على مصر– أن الجهات التنظيمية ليست وحدها المسؤولة عن دفع هذا القطاع قدماً. فيقول: "إن النظر إلى اللوائح التنظيمية على أنها التحدي الأكبر الذي يواجه الشركات الناشئة نوع من اختلاق الأعذار. فالمشكلة الحقيقية تكمن في أن الشركات حينما تبتكر، فإنها تبحث عن طرق جديدة للقيام بالأمور، ولن توجد بالضرورة لتلك الطرق لوائح واضحة في الوقت المناسب، فهناك دائماً مساحات رمادية يمكن أن تعمل فيها الشركات حتى تصل إلى مرحلة تحتاج فيها إلى الحصول على ترخيص. ويوجد دائماً مجال للابتكار قبل الوصول إلى هذه المرحلة".
ومع مراعاة عوامل مثل حجم السكان، كما هو الحال في مصر والمملكة العربية السعودية، يعتقد محمد عكاشة أن شركات الخدمات المصرفية المفتوحة تستطيع التوسع بمفردها في بعض البلدان، بينما تتيح بلدان أخرى فرصة جيدة للشركات الناشئة لكي تتحقق من المفهوم وتختبر نموذجها التجاري، ولكن عليها في نهاية المطاف أن تلجأ إلى مكان آخر لتكون قادرة على التوسع.
ويضيف محمد عكاشة أن: "البنوك المركزية تستغرق وقتاً طويلاً لوضع أطر تنظيمية تشمل جميع حالات الاستخدام، وعادةً ما تتحقق من الحلول التي تعمل بشكل جيد لصالح المستهلكين، ثم تبدأ في إعداد أطر لها. ويستغرق ذلك وقتاً طويلاً في خضم ضجيج الابتكارات التي تظهر. ويتمثل الحل العملي في السماح للشركات العاملة في هذا المجال بالانطلاق والتجربة، سواء في نطاق بيئة تجريبية أو في ظل المراقبة والرصد".
إلا أن التوسع من أصعب الأشياء التي يمكن أن تقوم بها شركات التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى العقبات التنظيمية. يقول عبد الله: "أكبر عقبة يواجهها أي مُؤسس هي قابلية التوسع. فمن الصعب للغاية تصدير التكنولوجيا إلى جميع أنحاء المنطقة. وإذا تم تنسيق اللوائح، ستصبح التكنولوجيا المالية قطاعاً قوياً للغاية في المنطقة مقارنةً ببقية العالم".
دور الوعي
من المتوقع أن يصل حجم السوق العالمية للخدمات المصرفية المفتوحة إلى 43 مليار دولار على مدار السنوات الخمس المقبلة، في حين أنه لا يوجد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوى عدد ضئيل من مُقدمي هذه الخدمات الذين لديهم أمل كبير في أن تزدهر هذه السوق في نهاية المطاف.
يقول أحمد حمودة، مؤسس شركة ثاندر التي تقدم منصة لتداول الأسهم في البورصة عبر الهاتف المحمول ويقع مقرها في القاهرة: "لا بد أن تستثمر شركات التكنولوجيا المالية في التوعية العامة. فمستوى الوعي المالي في منطقتنا يتوقف على الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا المالية. وتتسم الجهات التنظيمية بنزعة المحافظة على القديم ومقاومة التَّغيير من أجل حماية المستهلكين بوجه عام، ولذلك فإن مهمتنا هي أن نُظهِر لهم كيف تُعزز التكنولوجيا أمن العمليات المالية عموماً".
أما محمد عزيز المؤسس المشارك لشركة DAPI فيرى أن المصارف نفسها هي التي يجب أن نُظهِر لها فوائد الخدمات المصرفية المفتوحة التي ستعود على أعمال المصارف. فيقول: "يشعر كثير من المؤسسات المالية بأن أثر الخدمات المصرية المفتوحة عليهم غير واضح. وشركتنا في الواقع على أتم الاستعداد للتناقش مع المؤسسات المالية بشأن تحديد أوجه التعاون المحتملة والفرص المتاحة لهم. فقد سُمح للبيئة الحاضنة المتعلقة بالخدمات المصرفية المفتوحة بأن تتطور في شتى أنحاء العالم قبل تطوير أنظمة مصرفية مفتوحة بالكامل. ويجب إعداد المعايير بشكل شامل واعتمادها من قِبل جميع المشاركين في البيئة الحاضنة، بما في ذلك المصارف ومُقدمو الخدمات الخارجيون. فإذا قامت شتى المصارف والجهات الخارجية المقدمة للخدمات باعتماد معايير مختلفة، فسيكون الاعتماد محدوداً، وستصبح تكاليف التكامل مرتفعة، ولن تزدهر البيئة الحاضنة".