الصعود البطيء للمصرفية الرقمية في الشرق الأوسط
جاءت أهم أخبار الشهر الماضي من أبو ظبي بعدما أعلنت شركة الاستثمار (القابضة)، الشركة القابضة لبعض أكبر الأصول في الإمارات العربية المتحدة بما في ذلك ميناء أبو ظبي الجوي ومشغّل سوق أبو ظبي للأوراق المالية، عن خططها لإنشاء مصرفٍ رقمي برأس مال مبدئي بقيمة 544 مليون دولار أمريكي، وذلك بعد حصولها على رخصة التشغيل من بنك أبو ظبي الأول.
وتُعد هذه خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للمصرفية الرقمية في الشرق الأوسط، القطاع الذي اكتسب زخمًا في عالم التكنولوجيا المالية حول العالم.
تعمل المصارف الرقمية على نحوٍ رقمي بالكامل، حيث لا وجود لها على الأرض، كما أنها مستقلة عن المصارف التقليدية. تضم بعضًا من كبرى المشروعات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية في العالم، بما في ذلك مصرف (Nubank) البرازيلي، والذي يضم 36 مليون مستخدم بتمويل مقداره 1.4 مليار دولار أمريكي، كما تًقدّر قيمته الحالية بـ10 مليار دولار أمريكي. في موقعٍ أقرب إلينا من المصرف البرازيلي يقع مصرف (Revolut) البريطاني، والذي يضم 10 مليون عميل بإجمالي تمويل 917 مليون دولار أمريكي حتى تاريخه، وتُقدر قيمته الحالية بـ5.5 مليار دولار أمريكي.
وفقًا لصحيفة (بيزنس إنسايدر) الرقمية، تبلغ قيمة سوق المصرفية الرقمية العالمي 35.5 مليار دولار أمريكي بنهاية هذا العام. ورغم أن هذا المجال يُعد جزءًا من قطاع الصرافة إجمالًا، إلا أن المصرفية الرقمية قد حقّقت نموًا سريعًا على مدار السنوات القليلة الماضية.
وعلى الصعيد الأوروبي، صدر تقرير أعدّته شركة (إيه تي كيرني) الاستشارية لعام 2019 جاء فيه أن المصارف الرقمية الأوروبية ضمّت أكثر من 15 مليون عميل خلال الفترة من 2011 إلى 2019، ومن المتوقع أن يصل إجمالي عدد عملاء المصارف الرقمية 85 مليون عميل بحلول عام 2023 جميعهم فوق سن الـ14، وهو ما يعادل 20% من تعداد سكّان أوروبا.
أما في منطقة الشرق الأوسط، لا تزال المصرفية الرقمية في طورها الأول.
كرد فعل على ارتفاع معدل الاتصال بالإنترنت واستخدام الهواتف الذكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، دأبت المصارف التقليدية على بناء بنيتها التحتية الرقمية وعرض بعض خدماتها افتراضيًا، بدءًا من مواقعها الإلكترونية وصولًا إلى التطبيقات الذكية. نجح هذا الأمر لبعض الوقت، حتى ظهرت المشروعات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية التي مهّدت خفّتها وابتكاري التكنولوجي الطريق لخدماتٍ جديدة عملت على تغيير تفضيلات العملاء نحو خدماتٍ مصرفيةٍ أسرع وأسهل استخدامًا وأيسر تعاملًا.
وفيما لا تزال المصارف التقليدية تفرض سيطرتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أصبح أكثر وضوحًا بالنسبة لها أن الاعتماد على الأدوات وقواعد العملاء الحالية لن تكفي لحفظ حصتها في السوق. كما زاد الإغلاق الكلي جرّاء جائحة كورونا من الطلب على البنوك الرقمية وعزّز من مكانة إمكانات المصارف الرقمية.
وعلى الرغم من ذلك، لطالما كان القطاع المالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قطاعًا محافظًا، حيث تُعرف أغلب البنوك بتردّدها في الإقبال على التغيير وتغلب عليها الأنظمة القديمة، وتفضَل الأطر التنظيمية هذه المصارف التقليدية التي لا تنافس إلا بعضا البعض.
وفي هذا الصدد، صرّح أمير فارزاسيمي، المدير التنفيذي لـ(جنجل باي)، أحد المصارف الرقمية القائمة في الإمارات العربية المتحدة، قائلًا: "إن المصارف التقليدية ترانا مصدر تهديدٍ لها، وذلك لأن المصارف والهيئات المالية التقليدية التي تتمتّع ببنية تحتية مستقرة تمامًا وكفاية جيدة من رأس المال أدركت أننا وزملائنا في نفس المجال نقدّم أداءً أفضل وأوفر منهم".
والآن، بفضل ظهور هؤلاء المنافسين المتمكّنين، شرعت بعض المصارف التقليدية بإطلاق منتجاتٍ رقمية لتحذو حذو المصارف الرقمية.
من ضمنها خدمة (ليف) لبنك الإمارات دبي الوطني، وخدمة (نيو) لبنك المشرق، وخدمة (ميم) لبنك الخليج الدولي والمؤسسة العربية المصرفية، والمصرف الرقمي البحريني. ولكن، تلقّت هذه المصارف انتقادات نظرًا لكونها مجرد امتدادًا رقميًا لمصارف تقليدية.
وفي الوقت نفسه، دأبت مصارف أخرى مثل بنك دبي التجاري، بدلًا من ذلك، على مشاركة المشروعات الناشئة في مجال المصرفية الرقمية، ومثال على ذلك خدمة (ناو ماني) في حالة بنك دبي التجاري، الأمر الذي جعل تلك المصارف أكثر قدرة على العمل باستخدام ترخيص المُقرض.
في الإطار ذاته، صرّحت كاثرين بود، المؤسس الشريك لخدمة (ناو ماني) بأنه "لا مهرب هناك من واقع أن المؤسسات المالية الكبيرة ليست بمشروعاتٍ تقنيةٍ ناشئة، وذلك لأنها لا تعمل بالطريقة نفسها. فالترخيص الذي تحمله مهمٌ هنا، وبالتالي فإننا نتشارك مع العديد من المؤسسات المالية التي تعمل بالطريقة الصحيحة، ونقدم خدماتنا القمية على نحوٍ فعّال وموثوق فيه". وأضافت: "تتشارك المصارف الكثير من البيانات مع الحكومة هنا".
في الإمارات العربية المتحدة، يطلب الإطار الحالي لتراخيص التكنولوجيا المالية من الشركات أن تتشارك مع أحد المصارف على أن يمتلك 51% من المشروع الناشيء. هذا وقد بيّنت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة (فيناسترا) أن الأنظمة التقليدية والمركّبة بدأت تغيّر من ثقافتها وخفَضت الرقابة على اتخاذ القرار من بين أهم عوائق التعاون في عالم التكنولوجيا المالية في الإمارات العربية المتحدة.
من جانبه، قال فارزاسيمي: "إننا نتنافس بعض الشيء مع مصارف قائمة بالفعل، نظرًا لأننا نجعل العملية أسهل وأوفر وأفضل وأكثر اهتمامًا بالعميل، مما يجعلنا نقدم خدماتٍ أفضل له. ولكن أعتقد أننا في الوقت الحالي لا نتنافس مع المصارف التي نتشارك معها".
على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، استعان البنك المركزي الإماراتي بمؤسستين خارج الإمارات؛ هيئة تنظيم الخدمات المالية وسلطة دبي للخدمات المالية، لتطوير الأطر التنظيمية، ولكن المؤسستين لم يكن لأيٍ منهما سلطة على المصارف التي تستقي ترخيصها من البنك المركزي. وبالمثل، فإن ترخيص كلا المؤسستين كان يُعد مجرد إرشاداتٍ استشارية أكثر من كونه لوائح قانونية، مما خلق حالةً من عدم اليقين التشريعي فرض شكوكًا على مشروعات التكنولوجيا المالية والمستثمرين على حد السواء.
وبالتالي، فإن التشارك مع مصرفٍ تقليدي واستخدام ترخيصه في الحصول على اتفاقية مشاركة الإيرادات يُعد السبيل الوحيد للمصارف الرقمية للعمل في منطقة مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي يمكن أن يصبح عملية تستهلك وقتًا طويلًا.
لا تتمتع أغلب المصارف اليوم بأي خلفيةٍ معرفيةٍ تقنية أو أنظمةٍ تكنولوجيةٍ حديثة تسمح لها بالتعاطي مع المشروعات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، ومن ثم فإن الأخيرة ذاتها عليها أن تغيّر من تكنولوجيتها للتعاطي مع المصارف أو أن تطلب من المصارف أن تحدّث أنظمتها.
وقبل أن يعرض المصرف التقليدي ترخيصه على مشروع التكنولوجيا المالية، يجب عليه أن يتخذ إجراءاتٍ شديدة التعقيد، والتي عادةٍ ما تستهلك شهورًا، هذا بالإضافة إلى مشكلة اتفاقية مشاركة الإيرادات. تستثمر المصارف الأموال التي يودعها عملاؤها في حساباتها. ونظرًا لأن الكثير من هذه المصارف الرقمية تستهدف قطاعات من السوق ليس لديها ودوائع كبيرة، وبخاصةً الأجيال الأصغر سنًا، أو قطاعات ذات دخولٍ منخفضة أكثر كما في حالة خدمة (ناو ماني) وخدمة (رايز) الإماراتية التي تستهدف المهاجرين بالإمارات العربية المتحدة، وبالتالي فإن العوائد المحتملة تكون تافهة بالنسبة للمصارف.
في السياق ذاته، قال ميليند سينج، المؤسس الشريك لخدمة (رايز)، المصرف الرقمي القائم بالإمارات العربية المتحدة الشريك للبنك العربي المتحد، أن: "هذا من الصعب للغاية على مشروعات التكنولوجيا المالية، حيث تأخذ شريكًا مصرفيًا معتاد على البنية التحتية التقليدية، وبالتالي لا تكسب المصارف الرقمية الكثير على كل عميل، فضلًا عن النفقات التي تتحملها".
أضاف سينج: "هذا ما يأّس العديد من المصارف من العمل مع المصارف الرقمية، ليس بسبب قلة الطلب، ولكن بسبب الوحدة الاقتصادية. إنه آخر أمر يريد مصرف ما أن يفكر فيه، ببساطة لأنه لا يدر عليه مالًا".
تصعّب هذه المعوقات عملية الدخول، فضلًا عن أن حجم المصارف التقليدية يجعل من الصعب أن ترى مصرفًا رقميًا يبدأ من الصفر في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن مع وجود 168 مليون مواطن لا يملكون حق الوصول إل مصرفٍ أساسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفقًا للبنك الدولي، ومع كون 300 مليون مواطن فيما دون الـ24 عامًا، فإن هناك فرصة جيدة للمنطقة لتتطور كسوقٍ للصرافة والمدفوعات الرقمية والتكنولوجيا المالية.
تعزيز الطلب
هناك طلب هائل على خدماتٍ مالية أيسر، الأمر الذي يعطي مشروعات التكنولوجيا المالية المحلية الفرصة لإثبات نفسها كمعيارٍ ذهبي لعالم المصرفية الرقمية في المنطقة، وذلك قبل أن يبدأ اللاعبون العالميون في الاهتمام بهذه المنطقة الجغرافية من العالم.
أضاف فارزاسيمي: "أعتقد أن مشروعات التكنولوجيا المالية ستضم المزيد من حصة السوق من المصارف التقليدية، وذلك لأن الجميع مفتوحين على الفكرة ذاتها ويسعون نحو خدماتٍ رقمية يستخدموها في أداء المدفوعات وتحويل الأموال".
من خلال تقديم عملاءٍ جدد إلى النظام المالي الرسمي، فإن المصرفية الرقمية تزيد من فرصة السوق وقدرته على تقديم خدماتٍ أكثر ربحية في المستقبل.
قال أحد حمودة، مؤسس (ثاندر)، منصة لتداول الأسهم على الهاتف في القاهرة، أن "مهمة المصارف أن تخدم الأفراد والمؤسسات ذوي الملاءة المالية العالية، وهو أمرٌ أساسي في نموذجها التجاري. ولكي تتحوّل هذه المصارف بأنظارها إلى الأفراد العاديين عليها أن تتمتع بمرونةٍ أكثر ورتابةٍ أقل. تتمتع مشروعات التكنولوجيا المالية بهذه الميزة، لأن التكنولوجيا تلعب لصالحها".
لن يكون ذوو الدخول الأقل المستفيدين الوحيدين من المصارف الرقمية، حيث يمكن للمشروعات الناشئة أن تكون من كبار العملاء. تتعامل المصارف التقليدية بشكلٍ أساسي مع عملياتٍ ماليةٍ كبيرة، وتهتم أكثر بالمشروعات الضخمة والأفراد ذوي الملاءة المالية العالية، مما يؤدي إلى إهمال الحلول المصرفية الملائمة للمشروعات الصغيرة. إن فتح حسابٍ مصرفي يُعد من أكبر التحديات التي تواجهها المشروعات الناشئة في الشرق الأوسط.
في تصويتٍ بسيط أجرته (ومضة)، اتضح أن 56 من المشروعات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استهلك من شهرين إلى خمسة شهور لفتح حسابٍ بنكي، و13% منها استهلك أكثر من خمسة شهور.
قال سعد الأنصاري، المؤسس الشريك والمدير التنفيذي لـ(إكسبنس)، أن: "المصارف الكبيرة لا تعرض الخدمة التي تحتاجها المشروعات الناشئة، ولا تقدم المصارف الأصغر عادةً التكنولوجيا التي يسعدى رواد الأعمال الجدد إليها. إن المصارف التقليدية تصعّب من إجراءات فتح الحساب، فيما تفرض رسومًا باهظة على المدفوعات أو التحويل الدولي".
فيما قد لا يفتح عميل المصرف الرقمي شهية المصارف التقليدية، فإنها تعمل على جذب أغلب سكّان المنطقة الذين تغلب عليهم الفئة التي ترغب في أداء أعمالها ومعاملاتها الشخصية افتراضيًا. من خلال التشارك مع مشروعٍ ناشيء في مجال المصرفية الرقمية، يمكن للمصارف التقليدية أن تستهدف قطاعاتٍ جديدة من العملاء وأن تحقق الدخل من خلال اتفاقيات تقاسم الإيرادات بدلًا من استبعاد قطاعاتٍ كبيرة من السوق كليةً. إن الإقبال على التحول الرقمي بالكامل والتعاطي مع المشروعات الناشئة في مجال التكنولوجيا الرقمية على مستوى الإقليم هو السبيل الوحيد نحو التنافس مع عمالقة السوق الرقميين الذين سيخترقون المنطقة لا محالة.