الأهرامات ومستقبل الابتكار في مصر
تمثل أهرامات الجيزة- أعجوبة العالم القديم الوحيدة التي ما تزال قائمة حتى اليوم –جوهر الروح والحضارة المصرية. وهي ليست مُجرد مصدراً للفخر والاعتزاز أو للإيرادات بفضل ملايين السياح الذين يتوافدون كل عام لمشاهدتها، بل رمزاً للإبداع التاريخي لمصر وقدرتها الابتكارية.
والآن، تتطلع البيئة الحاضنة لريادة الأعمال في مصر إلى إعادة استخدام هذه الأعجوبة التاريخية لتكون بمثابة شاهد على ابتكارات المستقبل، وقد بدأ ذلك بالفعل مع مسابقة " Pitch by Pyramids" التي تُقام عند سفح الأهرامات، وهي مسابقة متعددة المراحل لتقديم الأفكار وتتنافس فيها 15 شركة ناشئة من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل الحصول على استثمارات.
وقد فازت شركة Yanzo الإماراتية، وهي تطبيق مساعدة شخصية بناءً على الطلب، بجائزة تصويت الجمهور وقيمتها 60،000 دولاراً بينما وقع اختيار لجنة التحكيم على شركة Paynas المصرية، وهي منصة إلكترونية لإدارة الموارد البشرية والمدفوعات، للفوز بالجائزة الثانية من مؤسسة "500 Startups" وقدرها 50،000 دولار.
واختتمت هذه المسابقة فعاليات قمة "رايز أب" السابعة، التي أعلن مؤسسها- عبد الحميد شرارة -عن شراكة لمدة ثلاث سنوات مع شركة جيميني انتربرايز أفريقيا، إحدى شركات مجموعة أوراسكوم، لتطوير مراكز الابتكار في "بلاتو الأهرامات" وغيرها من الممتلكات المملوكة لشركة أوراسكوم، على أن تحصل السابقة على الحقوق الحصرية لتنظيم أي فعاليات ريادة أعمال في المنطقة.
صرّح عدلي توما، الرئيس التنفيذي لشركة جيميني انتربرايز أفريقيا قائلاً: "هدفنا هو أن نجعل من الأهرامات مركزاً يجمع بين التاريخ والمستقبل، وربط الثقافة بالابتكار وريادة الأعمال. ومعاً، ستصل البيئة الحاضنة إلى هذا الهدف وهو الدفع بالأهرامات و "رايز أب" إلى المرحلة التالية."
البيئة الحاضنة المصرية
زاد نطاق المشاركة في قمة "رايز أب" بشكل منتظم منذ انعقادها للمرة الأولى عام 2013 في الجريك كامبس "الحرم اليوناني" بمنطقة وسط القاهرة. واستقطبت الفعالية هذا العام أكثر من 8000 مشارك من 56 دولة بما في ذلك 290 شركة ناشئة و400 مستثمر، لتصبح بذلك أكبر فعالية ريادة أعمال تُقام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أقيمت الفعالية لأول مرة في حرم الجامعة الأمريكية بالقاهرة (AUC) الذي على الرغم من أنه أتاح للمنظمين المساحة المطلوبة لاستضافة مثل هذا الحدث الضخم، إلا إنه أبعد القمة عن قلب ونبض القاهرة.
وإعادة استضافة قمة "رايز أب" في الأهرامات من شأنها أن ترسخ الشعور الثقافي للفعالية التي أثبتت أنها مقياساً جيداً للتعرف على وضع البيئة الحاضنة لريادة الأعمال في مصر.
ونظراً لسيطرة فكرة التنقل على جلسات المناقشة، كان هناك زخم بصري من شعارات الشركات على الحافلات والدراجات البخارية التي امتدت إلى الشارع، مما جسد بشكل ملموس قدرة الشركات الناشئة على إحداث تغيير حقيقي.
وربما نقطة التفوق والتميز للبيئة الحاضنة في القاهرة هي حل أوجه عدم كفاءة الأسواق الخاصة بها. فعادة ما تتجه الشركات في البيئات الحاضنة الناشئة إلى السير على خطى الشركات التي حققت نجاحاً في أماكن أخرى وتقليدها، مع قدر لا بأس به من خدمات التعريب. وكلما زاد نضوج البيئات الحاضنة زاد معدل ظهور الشركات الناشئة، الأمر الذي يبين فهم السوق المحلية ويوفر مستوى من الابتكار من شأنه تغيير القطاعات التقليدية، ويبدو أن مصر قد وصلت إلى هذه المرحلة من التنمية.
تقول فيرا فوتورجنسكي، مديرة الابتكار في "500 Startups": "من المهم حقاً التركيز على المشاكل القائمة في البلاد، فلا يمكن للشركات الناشئة أن تزدهر ما لم تعمل على تقديم حل لمشكلة قائمة".
ومع تعداد سكان يبلغ 100 مليون نسمة، وبنية تحتية متهالكة ونقص في الخدمات العامة، ظهرت الشركات الناشئة في مصر لتوفر حلولاً لتلك التحديات. ولهذا السبب اختارت شركات مثل "أوبر" و "كريم" القاهرة لتكون منصة انطلاق خدمات الحافلات الخاصة بها وكذلك الشركات الناشئة المحلية مثل "سويفل" و "بسيط" و "حالاً" التي تواصل التوسع والنمو.
فضلاً عن مجال التنقل، تبني مصر خط قوي للتكنولوجيا الصحية (healthtech) وكذلك تكنولوجيا التعليم (edtech) والتكنولوجيا المالية (fintech). ونظراً لأن أكثر من 80 في المئة من السكان لا يمتلكون حسابات مصرفية، أصبحت مصر سريعاً مركزاً للشمول المالي. كما أن هناك حضوراً قوياً للبرمجيات الخدمية (SaaS) وتكنولوجيا الأجهزة، مما يعكس القدرات الهندسية القوية في البلاد.
تقول فيرا فوتورجنسكي: "ترغب الكثير من الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إنشاء البيئات الحاضنة، وقد وصلنا أخيراً إلى المرحلة التي أدركت فيها الحكومات أننا بحاجة إلى إنشاء بيئات حاضنة لريادة الأعمال سواء في مجال التكنولوجيا التعليمية أو الصحة. ولكننا بحاجة إلى بناء قاعدة من المواهب، فلا توجد حكومة في العالم لديها ما يكفي من المواهب".
مُهندسو البرمجة
لكن في بعض المجالات لا يبدو أن مصر ينقصها المواهب. فمع معدل بطالة 11.8 في المئة ومعدل بطالة للشباب يبلغ نحو 33 في المئة، وفقاً لمنظمة العمل الدولية، يمكن القول بأن ريادة الأعمال هي المسار الوظيفي المُجدي الذي يلقى قبولًا كبيراً من الناحية الثقافية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى الرغم من أن العمل بالخارج أو في الشركات الكبرى مثل "فودافون" هو الخيار الأكثر جاذبية بالنسبة لشباب المهندسين والمطورين، إلا أن الشركات الناشئة تنجح بشكل متزايد في جذب المواهب المحلية.
والموهبة الحقيقية هي ما تبحث عنه الشركات في جميع أنحاء العالم، فعندما طلب شركة Andela، وهي شركة الاستعانة بمصادر خارجية للبرمجيات في نيجيريا، مهندسي برمجيات مصريين للانضمام إلى فريقها، اعترض أحدهم ضد الشركة متهماً إياها باستقطاب المهندسين المصريين الذين بإمكانهم العمل مع شركات مصرية وإثراء البيئة الحاضنة المحلية. وكان الرد الوحيد للمدير الإقليمي لشركة Andela مصر، راما الصفتي، على ذلك "هذا هو نموذج أعمالنا".
وفي غضون ذلك، أعلنت منصة المحتوى العربي الأردنية "موضوع" عن عزمها زيادة عدد فريقها في القاهرة من ثمانية أشخاص حالياً إلى 100 مع بداية عام 2019 لتطوير تطبيق المساعدة الصوتية الذكي، Salma.
"نرى توفر المواهب هنا؛ إذ تتوفر خدمة فهم اللغة الذكية "Luis " من مايكروسوفت (التي تستخدم التعلم الآلي لبناء لغة طبيعية في تطبيقات وأجهزة الروبوت وإنترنت الأشياء)، وفريق عمل كامل، ليس فقط للغة العربية، ولكن لجميع اللغات. ويقول حسين النتشة مدير الذكاء اﻻصطناعي في شركة موضوع: "إذا ذهبت إلى جوجل أو فيسبوك في سيليكون فالي، ستجد الكثير من المواهب العربية تعمل هناك".
كما أعلنت "موضوع" عن استحواذها على "سوبر ماما"، وهو موقع إلكتروني مخصص للمرأة العربية.
المرأة والمال
وبخلاف الموهبة، هناك مطلب حيوي آخر مُهم للشركات الناشئة وهو رأس المال. ربما يمثل رأس المال أضعف نقطة في البيئة الحاضنة في مصر. كثيراً ما تتطلع الشركات الناشئة القوية في مصر إلى ما هو أكبر من إمكانياتها الاستثمارية. فقد أطلقت "سويفل"، وهو تطبيق إلكتروني لحجز الحافلات، أكبر جولة ثانية لجمع الاستثمارات على الإطلاق في البلاد، بلغت 42 مليون دولار من شركات تمويل في السويد والإمارات العربية المتحدة والصين والولايات المتحدة. وتنقل الشركة الآن مقرها الرئيسي من القاهرة إلى دبي للحفاظ على نموها.
تمتلك مصر أعلى معدل إخفاق في ريادة الأعمال من بين 49 دولة وفقاً لتقرير المراقب العالمي لريادة الأعمال (GEM) لعام 2018، بمعدل 10.2 في المئة، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى ضعف الربحية وصعوبات الحصول على رأس المال.
أصبحت الحكومة والمؤسسات المالية توجه تركيزها إلى زيادة الاستثمار وتوفير أموال جديدة. وقد أعلن البنك المركزي المصري مؤخراً عن إنشاء صندوق تمويل قيمته 58 مليون دولار، بينما أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عن إطلاق TIYE Angels، وهي شبكة استثمار ملائكي للسيدات، بالشراكة مع مركز الإبداع التكنولوجي وريادة الأعمال، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وجمعية "ملائكة".
وكانت مسألة تمكين ريادة أعمال المرأة أحد مجالات التركيز الرئيسية في "رايز أب" وعقدت العديد من حلقات النقاش حولها.
تقول نيفين الطاهري، رئيس مجلس إدارة والعضو المنتدب لشركة 138 Pyramids، وهي مُسرعة أعمال في مصر: "إننا نجعل الرجال يخافوننا لأننا نظهر على الساحة بقوة. وأعتقد أن النساء تتمتع بروح المبادرة والريادة أكثر من الرجال."
سواء كان من يبحث عن ريادة الأعمال في مصر رجالاً أو سيدات، فإنهم يحتاجون إلى مزيد من الوصول إلى رأس المال وبيئة حاضنة مواتية بشكل أكبر للقيام بالأعمال.
وقالت سحر نصر، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي في مصر: "نحرص على أن يحظى رجال الأعمال بحرية تامة ومناخ مناسب للنمو والازدهار والمساهمة في الاقتصاد بطريقة مستدامة ومرنة. وعلينا أن نتأكد من وجود بيئة قانونية وتشريعية ومؤسسية تسمح للشركات الناشئة بالمساهمة في اقتصادنا".
غالباً ما يوجد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطر رؤية النظام الإيكولوجي في فقاعة، والإيجابية المبالغ بها والاحتفاء بالنجاحات الصغيرة للغاية. ويكاد يكون من المستحيل الشعور بالتهنئة في مكان مثل مصر. فالمرء يرى صراعات الحياة اليومية في كل زاوية تقريباً. ويمثل التأقلم في حد ذاته صراعاً، فالقاهرة واحدة من أكثر المدن تلوثًا في العالم وتعاني البلاد من معدل فقر يبلغ 30 في المئة. وعلى الرغم من انتعاش الاقتصاد على مدار السنوات القليلة الماضية، إلا أن إجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد أقل من 3000 دولار ولا يزال الفساد أمراً شائعاً. كما أن القاهرة لا تعتبر مكاناً يسهل العيش فيه أو بدء عمل تجاري، وإذا تمكنت الشركات من التوسع وسط هذه التحديات، فإنها تكتسب المرونة والدراية الفنية للتوسع في أسواق مماثلة حول العالم.