رواد الأعمال في جنوب تونس يحاولون إحداث تغيير
عندما تغادر عاصمة تونس والتجمعات الجديدة لمساحات العمل المشتركة، تصبح بقية أنحاء الدولة بيئة مختلفة بعض الشيء عن مشهد ريادة الأعمال في العاصمة.
خارج تونس، قد تلتقي بشركات ناشئة تعمل بمجال تكنولوجيا المعلومات، وبمشاريع اجتماعية في مجال الزراعة أو أجهزة الحاسوب أو معدات المصانع أو الموضة أو حتى الواقع الافتراضي. ويجمع هذه المشاريع همٌ واحد، هو: عدم وجودها في تونس العاصمة!
فرواد الأعمال من مدن مثل سوسة الساحلية أو صفاقس الحيوية اقتصادياً يحاولون إرساء منظومة حاضنة لريادة الأعمال خاصة بهم، إلا أنهم يواجهون صعوبات مختلفة بسبب ابتعادهم عن العاصمة.
تواجه المدن الأخرى كالمهدية السياحية أو قصرين وسيدي بوزيد الزراعيتَين صعوبات في إيجاد نموذج عملي يمكنه التأقلم مع نقص المرافق العامة أو مساحات التشبيك وتكوين العلاقات.
التقت ومضة مع عدد من رواد الأعمال والأطراف الفاعلة في هذه المناطق لاكتساب فهم أفضل لكيفية سعي هذه البيئة الريادية الجديدة إلى النمو خارج تونس العاصمة وكيفية تحولها إلى جزء من المشهد المتنوع لريادة الأعمال في تونس.
الأعباء المشتركة
بحسب الأرقام الصادرة عن مؤسسة البيات Biat Foundation في تونس لمحاولة رسم خارطة للشركات الناشئة، تضم المهدية 6 شركات مستقرة وشركة ناشئة واحدة، أما صفاقس ففيها 14 شركة مستقرة و5 شركات ناشئة، ويوجد في سيدي بوزيد 9 شركات مستقرة وشركة ناشئة واحدة. ولا توجد في مدينة قصرين شركات ناشئة لأنها تهتم أكثر بتنمية الأعمال الصغيرة.
إلى جانب البنى التحتية الضعيفة، تواجه المناطق النائية معدلات بطالة مرتفعة نسبياً بين صفوف الشباب. ففي المهدية، 21% من الشباب فوق سن الخامسة عشرة عاطلين عن العمل بحسب أرقام عام 2014 المذكورة في تقرير المعهد الوطني للإحصاء. وفي صفاقس، تصل نسبة البطالة إلى 17% بينما تبلغ في قصرين إلى 35%. إلا أن هذه النسب أقل قليلاً من نسب البطالة الوطنية التي تبلغ حوالي 36% وفقاً لأرقام البنك الدولي. من جانبها تحاول الحكومة التونسية غرس ثقافة ريادة الأعمال الجديدة من خلال حملة النجم Innajim، التي تهدف إلى تبسيط آلية إنشاء شركة جديدة للشباب في المناطق النائية مثل سليانة وقابس وسيدي بوزيد وغيرها.
صفاقس: مركز إقليمي يتمتع بإمكانات أكبر
تقع صفاقس على بعد 270 كم من تونس العاصمة. وفي المحافظة موقعان يرحبان برواد الأعمال: انطلاق Intilaq وهي حاضنة أعمال افتُتحت عام 2014 لتمويل الشركات الناشئة، وتكنوبول Technopole وهي مساحات مكتبية مدعومة مالياً من الحكومة وتساعد رواد الأعمال على استئجار المكاتب عند بدء مشاريعهم. توجد أكثر من 83% من الشركات الصناعية على ساحل البلاد، وحوالي 40% منها في محافظتي تونس أو صفاقس، مما يبرز أهمية محاولات صفاقس لتشجيع الشباب على إنشاء الشركات الجديدة.
صرَّح مهدي نجم وهو رائد أعمال من صفاقس: «من الصعب الابتكار وإنشاء شركة جديدة في صفاقس لأن الناس هنا يفكرون في المصلحة القريبة أولاً؛ فسينصحونك باستثمار وقتك ومالك في مشاريع تقل فيها نسبة الخطورة وتجلب لك العوائد. ولا يعتقدون أن المخاطرة بتأسيس شركة لتكنولوجيا المعلومات ستدر دخلاً». وأضاف نجم أنّ تأسيس الشركات الجديدة في صفاقس شائع جداً، فالاقتصاد فيها يعتمد على الشركات العائلية، والمخاطرة بإنشاء مشروع هي الوسيلة التقليدية لكسب الأموال ولكن ما ينقص هو الابتكار.
أسس مهدي نجم عدة مشاريع مخاطرة قبل الانضمام إلى فليكس وورك Flexwork وهي شركة ناشئة تقدم منصة لتسهيل تطوير البرمجيات. ووفقاً لنجم، إن تأسيس الشركات في صفاقس وإيجاد المستثمرين أمر محفوف بالصعوبات. وأضاف قائلاً إن ما يجعل شركته الجديدة، "فليكس وورك" مختلفة هو أنها «شركة ناشئة تركية وألمانية تتجه نحو الأسواق العالمية لتجنّب مواجهة هذه المتاعب».
قبل بدء أنشطة "تكنوبول Technopole" و"انطلاق Intilaq" منذ عامين ونصف، لم يكن هناك أي بيئة ريادية في صفاقس، فهذا كله جديد على رواد الأعمال الطموحين.
يشعر كثيرون غيرهم بالتفاؤل بسبب وجود الكثير من "الفرص غير المكتشفة" التي تجلبها المدينة، إلى جانب انخفاض المنافسة وتوفر الموارد والمواد الخام بتكاليف بسيطة.
أسس محمد خراط شركة "كومبي تكنولوجي Compi Technology" عام 2015، وهي شركة لتطوير المنتجات الإلكترونية وإنترنت الأشياء. وقد بدأ هذا المشروع في طوكيو، اليابان، عام 2013 ثم نقله إلى صفاقس لإطلاق عمله في بلده الأم. يقول محمد: «إن تكلفة الشؤون اللوجستية لتسيير الشركات هنا أقل بأربع مرات مقارنةً باليابان، وهو أمر إيجابي لمن هو بصدد تأسيس عمل له.
أسّس وليد شيبي مشروعه "تي دي إس TDS" (أنظمة التطوير التونسية Tunisian Development Systems) عام 2006. وكانت أول شركة ناشئة تستقر في "تكنوبول Technopole". وكانت فكرته تقوم على تصنيع النماذج التي يستخدمها طلاب الهندسة الصناعية في تونس بدلاً من استيرادها من الخارج، لذلك لم يكن لديه أي منافسين. بدأ وليد بمبلغ 10,000 دينار تونسي (4,000 دولار أميركي) حصل عليه من بيع سيارته، ثمّ كوّن تدريجيًّا شبكة عملائه من خلال تلقي الطلبات من الجامعات والمدارس. كان وليد مهندس إلكترونيات ولم تكن لديه أدنى فكرة حول ريادة الأعمال. فيقول عن ذلك: «لقد أهدرت الكثير من الوقت عندما بدأت قبل عشر سنوات لأنني لم أعرف أي شيء ولم أتمكن من طلب المساعدة».
في عام 2015، اكتسب وليد مكانة وانتشاراً عبر تصنيع المزيد من المعدات للقطاع العام. وهو يصدِّر حالياً منتجاته إلى أفريقيا ولبنان، وجمع 200,000 دولار مع صندوق انطلاق. ورغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، إلا أن عمله يحقق الأرباح حيث حصد 400,000 دينار (162,000 دولار أميركي) عام 2016. ويتابع قائلاً: «ما يميز صفاقس هو انخفاض تكاليف المواد الخام ووجود بيئة تدعم المشاريع الصناعية. فلماذا لا ننشئ بيئة ريادية أيضاً؟! ولا ننسى وجود مطار في المحافظة مما يجعلها قابلة لتصبح مدينة دولية».
اختتم وليد كلامه متحدثاً عن توفر المساحات والمرشدين والموجِّهين وورشات العمل المُكرسة للشركات المماثلة في تونس: «لا نزال نُعدّ من الشركات المستقرّة [التي لا تحتاج إلى تمويل أو رأس مال المخاطر] ولسنا من الشركات الناشئة. ولكن عندما نرغب بحضور ورشات العمل أو مؤتمرات حول الشركات الناشئة، يتعين علينا الذهاب إلى تونس العاصمة».
إن المشكلة الأخيرة التي ستواجهها بعد أن تنجح في تأسيس شركتك في صفاقس هي تحدي هجرة الأدمغة، بحسب مهدي نجم. فيقول موضحاً: «لا زلت أواجه صعوبات في توظيف الأشخاص لأن أفضل العاملين في مجال هندسة البرمجيات قد تركوا البلد».
بينما عبّر آخرون عن وجهة نظر مختلفة بهذا الخصوص؛ حيث يعتقد محمد خراط أن معدل دوران الموظفين في تونس أعلى منه في صفاقس مما يجلب المزيد من فرص التوظيف إلى المدينة. وقال ملاحظاً: «هنا [في صفاقس] يمكنك أن تجد شخصاً مرتبطاً بجذوره ولا يرغب في الابتعاد عن أسرته».
المهدية: مركز حيوي للمشاريع الاجتماعية
بالقرب من صفاقس تقع مدينة المهدية التي تشتهر بالصيد، وهي الأخرى تواجه صعوبات في توفير بيئة ريادية لرواد الأعمال بما لديها من أشخاص يملكون الأفكار والرغبة في إحداث تغيير.
بدأت أسماء منصور، وهي رئيسة المركز التونسي لريادة الأعمال الاجتماعية Tunisian Center for Social Entrepreneurship، بالعمل على مبادرة مساحات "لينجار Lingare" منذ عامين، وذلك بهدف نشر الوعي في المناطق التي ترتفع فيها نسبة البطالة ولكن تتوفر فيها فرص تأسيس الأعمال الاجتماعية. صرَّحت أسماء إلى ومضة: «بدأنا الحديث مع الشباب والمستثمرين المحتملين والطلاب. ورأينا أن المشكلة الأولى التي يواجهونها كانت عدم توفر مساحة للالتقاء والخروج بفكرة».
يضيف محمد غاشم، منسق المشروع قائلاً: «إن هدفنا الأساسي هو تسهيل الإجراءات أمام الشباب الذين يرغبون بتأسيس مشروع والدخول إلى السوق. ليس هناك الكثير من الفرص، والفرص نفسها تفتقر إلى التنوع. فالمهدية معزولة إلى حدّ ما ولا تتصل بتونس العاصمة».
والهدف الآخر من مساحة "لينجار Lingare" هو مساعدة رواد الأعمال الطموحين على تأسيس مشاريع مستدامة.
تقول منصور: «في بعض الأحيان ينبغي علينا إصلاح الضرر الذي أحدثته "الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل" وكذلك البنوك التي شجعت رواد الأعمال على أخذ القروض دون وجود خطة أعمال محكمة». بدلاً من إجبار رواد الأعمال على استقراض الأموال لتأسيس أعمالهم، تتمحور مبادرة "لينجار Lingare" حول مساعدتهم على تطوير أعمالهم من خلال الاعتماد على الذات.
أسّس كل من علي سقا وهشام منصر سوسيوردي Sociordi من خلال برنامج مساحات "لينجار Lingare". فالكيان الذي كان في عام 2014 رابطة تجمع المهندسين المستعدين لإصلاح الحواسيب القديمة وإعطائها للأطفال تحوّل تدريجياً إلى مشروع اجتماعي. يقول هشام منصّر: «بمساعدة من المركز التونسي لريادة الأعمال الاجتماعية، بدأنا بالتوسع وحاولنا التواصل مع الشركات والمؤسسات وحتى القطاع العام لجمع الحواسيب القديمة وإصلاحها».
فقد بدؤوا على نطاق ضيق حيث لم يكن لديهم أية أموال أو منح. وبحسب علي سقا، لا تُعد مدينة المهدية أولوية للمستثمرين مقارنةً ببقية المناطق رغم ارتفاع نسبة البطالة، مما حرمهم من الحصول على التمويل.
ويسعى المؤسسون الذين يصلحون حالياً حوالي 30 حاسوب شهرياً إلى بناء نموذج عمل مستدام من خلال إضافة حصص البرمجة للأطفال إلى خدماتهم الأساسية. ويضيف هشام منصّر إن: «الحواسيب التي نصلحها مخصصة للأطفال لأننا نثبت عليها برمجيات سهلة الاستخدام للأطفال».
تمكنت هذه الشركة الناشئة من الحصول على رعاية مالية بقيمة 30,000 دينار تونسي (12,000 دولار أميركي) من المعهد الفرنسي في تونس لمدة 18 شهراً. ويتابع هشام منصّر: «يمكننا بناء نموذج عملنا على منح الرعاية بما أن هدفنا هو إعادة الاستثمار فيما نفعله وليس الربح منه».
رسم ملامح مشهد ريادة الأعمال
عقد المركز التونسي لريادة الأعمال الاجتماعية شراكة مع موبنت Mobnet وهو مشروع تبادلي يموّله الاتحاد الأوروبي لتشجيع رواد الأعمال من تونس والمغرب على تبادل البرامج مع رواد الأعمال في إيطاليا وفرنسا. ويهدف هذا المشروع إلى تمكين رواد الأعمال التونسيين من الاستفادة من خلفية رواد الأعمال الأكثر خبرة ومشاهدة النماذج الناجحة في بلد آخر.
يقول أحماني رحماني المسؤول عن مشروع "موبنت Mobnet": «لا يمتلك الشباب العاطلون عن العمل في المهدية الحواسيب لبدء مشاريعهم أو إرسال بريد إلكتروني. كما أنهم لا يستطيعون الحصول على المعلومات لأنها مرتكزة في تونس العاصمة. وبالتالي لا تتوفر لديهم الأدوات ليصبحوا رواد أعمال من الأساس».
ولكن إن كان رواد الأعمال في صفاقس والمهدية يواجهون صعوبات في إيجاد المستثمرين عامة والمستثمرين الملائكة خاصة، فإن هذه الصعوبات تتضاعف أكثر فأكثر في المناطق النائية مثل قصرين وسيدي بوزيد التي تحظى بموارد أقل مما يجعل من ريادة الأعمال مهمة أشق.
يقول وليد عبيدي المسؤول عن "لينجار Lingare" في قصرين: «الأمر الرائع في قصرين هو أنّ الناس يرغبون في البقاء هنا لأنهم متمسكون بجذورهم في المنطقة، لذا إن تمكنوا من تأسيس مشروع ناجح في المنطقة سيُكتب له النجاح». ولا يزال وليد والمركز التونسي لريادة الأعمال الاجتماعية يواجهان صعوبة في اختيار رواد الأعمال المحتملين بسبب عدم معرفة الناس بماهية الشركة الناشئة في الأساس! وتقول أسماء منصور: «إن التحدي الرئيسي أمامنا هو التمتع بمهارات تأسيس الشركة. ثم يليه غياب الثقة. فالناس يواجهون صعوبات في التعاون معاً، ونلحظ ذلك في قصرين أكثر من المهدية أو سيدي بوزيد».
رغم أنه ليس من السهل دائماً مواجهة مثل هذه الصعوبات، تثبت هذه الأمثلة سعي التونسيين في المناطق النائية كي يصبحوا رواد أعمال ضمن منظومة حاضنة لا تزال في مراحلها المبكرة. ومعظم المشرفين والموجّهين ومديري المشاريع على علم بضرورة الانفتاح على المناطق الأخرى. اختارت مسرعة الأعمال الإقليمية حديثة الوجود في تونس فلات 6 لابز Flat6labs التواجد قرب محطة القطار لتمكين الشركات الناشئة القادمة من المناطق الأخرى من المشاركة في البرنامج.
إن ما نسبته 40% من الشركات الناشئة المختارة لتكون جزء من الدفعة الجديدة لبرنامج تسريع الأعمال كانت من المناطق الأخرى، واختيرت شركة واحدة من سوسة. كما أطلق الحاضنة "انطلاق" مساحات خارج تونس العاصمة لاحتضان الأفكار الجديدة التي قد تظهر خارج المدينة. كل ذلك يثبت لنا سعي تونس لتحقيق اللامركزية في ريادة الأعمال وتقدمها في هذا الصدد.