البحرين من النفط إلى السيليكون [رأي]
تشكل الشركات الصغيرة والمتوسطة 80% من مجموع الشركات المسجّلة في البحرين وهي المحرّك الأبرز للدورة الاقتصادية في المملكة. وبالطبع لدينا شركات أخرى كبرى مثل عمالقة النفط والمصارف التي تؤلف دعائم الاقتصاد البحريني والتي تضمن نجاحه.
ومع نضوب الثروة النفطية، نتطلّع إلى التحوّل من اقتصاد يحرّك النفط دورته إلى اقتصاد ذاتي الاستدامة مرتكز على التكنولوجيا. ولا نهدف إلى زيادة عدد الشركات الناشئة إنما إلى توجيه الشركات الجديدة نحو تعزيز رؤية البحرين الطامحة إلى تحويل الدولة إلى مركز تكنولوجي ومُنتِجٍ للسلع والخدمات المستقبلية ذات القدرة التنافسية العالمية.
لدينا القدرة على التغيير وماضون به
لطالما تحلّى البحرينيون بروح ريادية يغذّيها موقعنا الاستراتيجي. فمزيج الثقافات والجنسيّات شكّل مجتمعاً فريداً وُلدت منه قوّةٌ عاملة كفوءة. لدينا أشخاص يتميزون بذكائهم، واجتهادهم في العمل، وإتقانهم للغة الإنجليزية فضلاً عن مواكبتهم للمعايير العصرية للتكنولوجيا والجودة.
صحيحٌ أنّ الحكومة لا تستطيع صنع روّاد أعمال، ولكننا حتماً قادرون على مساعدتهم. وفي ظل سعي الحكومة حاليّاً إلى إنشاء بيئةٍ حاضنةٍ تساعد روّاد الأعمال على إطلاق شركاتهم وتخصيص وليّ العهد جائزة سنوية حتّى في هذا المضمار، تبقى معظم برامج المساعدة التي أنشأتها حديثة العهد، وتحتاج إلى الكثير من العناية والصقل.
المسؤولون في هذه البرامج لا ينتمون إلى مجال الأعمال ويعتمدون بالتالي على الدراسات و/أو التكهنات. لقد تعلموا من أخطائهم وبدأوا باللجوء إلى استشاريين من القطاع الخاص، ولكنّ هذا لا يكفي. فالمشكلة الأساسية تكمن في النموذج التمويلي المعتمد والذي تستفيد منه أيّ شركة ناشئة تأتي بخطة عمل واضحة. ولكن خطط العمل غير صالحة إلّا لأمر واحد فقط وهو إعادة تدوير الأوراق التي طُبعت عليها.
على الحكومة أن تفكّر كمستثمر
أرى أنّ المقاربة الأفضل في هذا الشأن هي بالحرص قبل كلّ شيءٍ على تقييم كلّ شركةٍ من وجهة نظر استثمارية، ثمّ تمويلها بواسطة المال الذكي. وحتى لو لم يكن هناك عائدٌ متوقّع من الاستثمار، يمكن الاكتفاء باحتسابه كعائد متوقع. فإنفاق المال الذكي يزيد من فرص النجاح ويقلّل التبذير.
مفهوم المال الذكي بسيطٌ ويعني الاستثمار في الأشخاص وليس فقط في خطط أعمالهم. فلا بدّ من أن تمنح الحكومة أصحاب السير المهنية الحافلة بالنجاحات الأفضلية في الاستفادة من برامج الدعم الحكومية. هذا المنحى ليس شكلاً من التمييز بين الأفراد أو نقضاً لمبدأ تكافؤ الفرص، إنّما مجرّد وسيلةٍ لتحقيق الغاية الأساسية، ألا وهي النجاح.
النمو الذي تحقّقه الشركات الناجحة يعود بالفائدة على الاقتصاد المحلّي عبر مدّه بالعائدات وفرص العمل. وسيكبر تأثير ذلك بشكلٍ تدريجيّ باتجاه إرساء اقتصاد ريادة أعمال ناجح وحلقات تآزر بين الشركات والمزيد من المشاريع الناشئة. وإن لم يتمّ ذلك، فإنّ الواقع الحالي يشبه الاستمرار برمي السهام بشكلٍ عشوائي بانتظار أن يصيب أحدُها نقطة الهدف.
هل جميعنا حقًّا روّاد أعمال؟
قد يكون من غير الصائب أيضاً تشجيع الجميع على أن يكونوا رواد أعمال، لأننا لا نمتلك جميعنا الصفات التي تخوّلنا لأن نكون كذلك. إطلاق شركة ناشئة هو بمثابة مسيرة يتخلّلها الكثير من الضغوطات، وتتطلب الكثير من الانضباط، والمثابرة والاجتهاد في العمل، وبراعة في التصرف واتخاذ قرارات صعبة. وتحتاج ريادة الأعمال مهارات اجتماعية وإدارية مالية، وهامشاً من التمويل الذاتي، ومعرفة في مجال التسويق، وفهم المنتج أو الخدمة، وبناء فرق العمل، ومعرفة كيفية قراءة أوضاع السوق والتعامل معها؛ هي إذًا تستلزم رجلاً أو امرأةً بصفاتٍ خارقة.
وكذلك لا ينبغي على الحكومة، وهي غير قادرة، على دفع النمو داخل الشركات الصغيرة والمتوسطة، لأنّ السوق هي العامل المقرّر الوحيد في هذا الشأن. ولكننا نستطيع إلى جانب الحكومة الدفع بهذا الاتجاه من خلال إنشاء ثقافة معزّزة للثقة. فانتشار قصص نجاح شركات ناشئة هو أفضل وسيلة لهذه الشركات لتحفيز النمو وتحقيق التقدم.
ثلاثة عناصر تضمن تحقيق هذا التحول في البحرين
ما الذي نحتاجه إذاً لتعزيز النمو وتفعيل دور الشركات الصغيرة والمتوسطة كمحرّكٍ للنمو الاقتصادي؟
1. نظام تعليمي موجّه. تحتاج الأجيال القادمة إلى تطوير معرفةٍ وبراعةٍ في مجالات التكنولوجيا والبرمجة والتصنيع. يبدأ ذلك في مرحلتي التعليم الثانوي والجامعي. فلا بد من أن يركّز نظامنا التعليمي على هذا الهدف، وأن يكون ثمة برامج تدريب داخل مؤسّساتنا الكبرى مثل شركة نفط البحرين "بابكو" BAPCO، وشركة الخليج لصناعة البتروكيماويات "جيبك" GPIC، وشركة ألمنيوم البحرين "ألبا" ALBA، مما يمكّن المتخرّجين من فهم مقوّمات نجاح هذه الشركات وإنشاء شركات جديدة بناء على فهمهم هذا.
2. التعاون. يمكن أن تنطلق الشركات الناشئة من تلبية احتياجات الشركات الكبرى التي تلجأ إلى استيراد سلع وخدمات من شركات أجنبية. ومثال على ذلك، تقوم "جيبك" باستيراد وشراء اللوالب من الصين. فلماذا لا نؤسّس شركة صغيرة تصنّع اللوالب وفق معايير "جيبك"، وتشتري الألمنيوم من "ألبا"، وتستعين بمهندسين من كلية البحرين التقنية "بوليتكنك البحرين" Bahrain Polytechnic لتصميمها؟ بإمكان هذه الشركة الصغيرة المصنّعة للّوالب أن تنمو وتوسّع نطاق عملها وصولًا إلى تصدير منتجاتها والمنافسة في السوق العالمية. وينطبق ذلك أيضاً على كل من مجالات تكنولوجيا المعلومات، والأمن، والأدوات، والاستشارات، وكافة المنتجات الأخرى التي الضرورية بشكل يومي.
3. إنشاء بيئة حاضنة سهلة وواضحة. لا يقوم عمل الحكومة على تأسيس شركات صغيرة ومتوسّطة، إنما من واجبها المساهمة في نموّها من خلال تسهيل وصولها إلى التمويل. وقد حققت وزارة الصناعة والتجارة تقدّماً كبيراً في هذا السياق بعد أن سمحت لما يقارب 30 نشاطاً تجاريّاً بمزاولة العمل من المنزل، ومن بينها التصوير، وتكنولوجيا المعلومات، والتسويق. إلّا أنّ ما تحتاج إليه الشركات الناشئة فعليّاً هو الوصول إلى التمويل. وفي حين يقدّم "بنك البحرين للتنمية" Bahrain Development Bank برامج مميّزة للبحرينيين، لم تحذُ المصارف الأخرى حذوه. فالمصارف التقليدية لا تمنح قروضاً للشركات الناشئة لأنه أمر خطير وغير مضمون النتائج (لا يوجد في أي مكان في العالم أي نوع من الضمانات الخاصة بقروض الشركات الناشئة). ولكن ينبغي على برامج مثل "تمكين" Tamkeen إضافة قروض الشركات الناشئة إلى محفظتها الاستثمارية. وليس عليها الاكتفاء بتأمين التمويل لأفراد جديرين بالثقة، بل أيضاً أن يكون لديها القدرة على تقديم القروض لمساعدة الشركات الناشئة وفق سياسة الفرصة الواحدة. فإن حصلت الشركة على قرضٍ وشكّل ذلك فرصتها الوحيدة، أعتقد أن المال سيؤخذ بجدّيةٍ أكبر كما لو لم يكن هناك أية عواقب.
نحن بحاجةٍ إلى التغيير، التغيير الآن قبل فوات الأوان.
حين ينضب النفط، هل سنعود إلى الخيم أم سنحتفل بإنجازاتنا التكنولوجية من داخل أبراجنا الشاهقة المتطورة؟