إطلاق العنان لإمكانات الإعلام الرقمي في المنطقة [رأي]
لا شكّ في أنّ الشباب العربي يستحق الاحترام والاهتمام كونه يمثل فئةً من أسرع الفئات نموًا في العالم ويسهم في تحفيز الطلب على الإعلام المحلي الرقمي والموجّه.
هذه الصورة من إحدى شوارع عمّان تجسد ظاهرةً طبيعية تتكرر في مختلف أنحاء المنطقة: شبابٌ عرب منهمكون بمتابعة وسائل الإعلام الرقمية عبر هواتفهم الخلوية.
يعرّف الإعلام الرقمي بأنه المحتوى والتطبيقات الإعلامية المرئية والمسموعة التي تُنشر مباشرة عبر شبكة الإنترنت، ويشمل كلّ ما يمكن تحميله أو مشاهدته مثل مقاطع الفيديو والموسيقى والألعاب ومحتوى تطبيقات الكتب الإلكترونية أو المجلات أو المواقع الإخبارية الإلكترونية.
ويتيح لمستخدميه فرصة إدارة حملات إعلانية ناجحة تعتمد على جمع ومتابعة معلومات محددة عن الأداء، مثل تحديد الفئات المستهدَفة والأشخاص الذين تابعوا المحتوى المقدَّم، والمدّة التي أمضوها في مشاهدة أو قراءة المحتوى، وعدد التعليقات التي حصل عليها، وطريقة تفاعل الناس معه، وردود الفعل تجاهه.
وهكذا تثمر جهود إدارة البيانات والمتابعة في تقديم فكرة قيّمة عن طبيعة المحتوى والمستخدمين وعاداتهم وميولهم، كما تساعد في تحديد استراتيجيات وسائل الإعلام والتسويق المستقبلية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف يمكن الاستفادة من هذه الفرص وإطلاق العنان لقدرات الإعلام الرقمي وتكييفها مع المنطقة، لا سيما في ضوء الزيادة الملحوظة في استهلاك الإعلام الرقمي والجهود التي تبذلها الشركات الناشئة لمعالجة الفجوات في ابتكار المحتوى؟
الفرصة المتاحة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تُعزى الزيادة في استهلاك وسائل الإعلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العقدين الأخيرين إلى ثلاثة عوامل، هي انتشار الأجهزة الخلوية في المنطقة، وتوفّر إنترنت النطاق العريض، وتشكيل الشباب غالبية السكّان.
أظهر "استطلاع لرأي الشباب العربي" Arab Youth Survey لعام 2015 أّن أكثر من نصف السكان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم دون سن الخامسة والعشرين. ومن بين هؤلاء، خمسة من أصل ستة يستخدموا الإنترنت بشكل يومي، وثلاثة أرباعهم يمتلكون هواتف ذكية، وتسعة من كلّ عشرة يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي.
في المحتوى الرقمي العربي فرص هائلة، خصوصًا وأنّ المحتوى المتوفّر لا يواكب متطلّبات المستخدمين المتحدّثين باللغة العربية والذين يفوق عددهم أولئك الذين يتواصلون باللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية لتصبح اللغة العربية رابع أشهر لغة على شبكة الإنترنت.
على صعيد الفيديو، فإنّ الفئة الأسرع نموًا هي الفيديوهات المختصرة (التي لا تزيد مدّتها عن 10 دقائق) التي تقدّم محتوى هواة من إنتاج الشباب العربي. تحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الثانية في العالم من حيث عدد مشاهدات مقاطع الفيديو اليومية التي تفوق 310 مليون مشاهدة، لتكون خلف الولايات المتحدة الأمريكية وأمام البرازيل بمرتبة واحدة.
وأخيرًا، بدأ استهلاك الإعلام الرقمي يتحوّل إلى الهواتف الذكية. وبالفعل، بات أكثر ترجيحاً أن يستخدم المستهلكون هواتفهم الخلوية بدلًا من أجهزة الحاسوب المحمولة أو المكتبية للاستمتاع بالألعاب أو مشاهدة الفيديوهات ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي.
لهذا السبب، بادرت شركاتٌ ناشئة إقليمية، مثل "فاين لاب" Vinelab في لبنان و "وي برس" Wepress في الإمارات العربية المتحدة، إلى الابتكار وتغيير طريقة عمل المحتوى إذ أنّ المستهلكين يتوقعون الوصول إلى أي محتوى عبر أي جهاز وفي أي وقت.
كذلك، فإنّ التفاعل الحميم بين مطوّري الألعاب الإقليميين وجمهورهم هو بحدّ ذاته تطور ثوري؛ فعلى سبيل المثال، تُجري شركة "طماطم" Tamatem استطلاع رأيٍ حول السيارة التي يفضّل الناس قيادتها في الألعاب على أجهزتهم الخلوية، ومن ثم تستعين بالنتائج لتطوير ألعاب القيادة الخاصّة بها، وتقوم بالأمر ذاته لتحديد نوع الموسيقى المفضل في الألعاب.
وقد أدركَت شركات الإعلام أنّه من خلال رقمنة وإدارة المحتوى الذي تقدّمه من فيديوهات وصور وحملات إعلانية، ستتمكّن من تحديد نطاق وصولها وشعبيتها وتتيح الفرصة لآليات ابتكار وتعاون أبسط وآليات توزيع أكثر تنوعًا، وذلك سيؤدّي إلى تغييرات إيجابية في إيراداتها.
نماذج الإيرادات
في الوقت الذي نرى فيه تنامياً ملحوظاً في حجم المحتوى المجاني الموجّه لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نلاحظ أنّ هناك أيضاً رغبة محدودة في الدفع مقابل هذا المحتوى بسبب عوامل مختلفة مثل تدنّي انتشار البطاقات الائتمانية وارتفاع معدّلات الفقر.
بشكلٍ عام، هناك خمس طرق لجنى الأرباح من المحتوى.
1) نموذج المحتوى المجاني Freemium: وهو عندما يقدّم المحتوى دون مقابل، وغالبًا ما يعتمد هذا النموذج على الإعلانات ويتضمّن باقةً مدفوعة للمحتوى المميّز premium. وفي هذا النموذج، تكون مصادر الدخل الرئيسية هي الإعلانات والانتساب، وتكمن فوائده الأساسية في أنّه يوفّر حركة مستمرّة ومكثفة لأنّ المحتوى مجاني مع إمكانية إضافة ميزّات بحسب رغبة المستهلك.
2) نموذج الاشتراك: تتم إتاحة محتوى مميز مقابل رسوم شهرية أو ربعية أو سنوية. وعلى الرغم من أنّ اعتماد نموذج العمل هذا قد يؤدي إلى خفض الحركة في الموقع، إلاّ أنّ تشجيع المستهلك على الدفع مقدمًا قد يُثبت نجاحه خصوصًا عندما يُطبّق من قبل شركاتٍ تحظى بسمعةٍ راسخة.
3) نموذج عمليّات الدفع متناهية الصغر Microtransactions: وهو حيث يدفع المستهلك رسوماً مقابل منتجات وخدمات محدّدة كما يفعل في "آي تيونز" iTunes عند شراء التطبيقات. والسرّ في تحقيق إيرادات عالية هنا يكمن في فهم رغبات المستهلك وسلوكه وتوجهاته وإدارة الزخم لتحفيز المستخدم على الشراء.
4) نموذج خدمات المحتوى المدفوعة: يُتاح للمستهلك خيار الدفع مقابل خدمات إضافية بحسب رغباته واحتياجاته. وهنا يتم بيع تجارب محتوى جديدة بشكلٍ منفصلٍ عن المنتَج الأصلي، وتكون الإيرادات تدريجيةً مثل الخدمات الأساسية زائد العروض الإضافية التي تتيح تجارب محسّنة.
5) المحتوى المضمّن Sponsored content: وهو المحتوى الموزّع على نطاقٍ واسع وعبر منصّات مختلفة. تهدف هذه الطريقة إلى تحقيق قيمة للعلامات التجارية والمعلنين الراغبين بالتواصل والتفاعل مع الجمهور بأسلوب مبتكر. ويجب على مزوّدي هذا النوع من المحتوى المحافظة على أعلى مستويات الجودة وتحقيق توازن بين الرسائل التحريرية والاستراتيجية من دون إزعاج المستهلكين وإبعادهم بالمحتوى المطروح على شكل إعلان.
لا تقتصر نماذج جني الأرباح من المحتوى على الأنواع المذكورة أعلاه، فالفرص الجديدة لتحقيق إيراداتٍ لا تتوقّف وتظهر بشكلٍ مستمرّ.
جذب انتباه المستهلك
في الوقت الذي لا تفكّ فيه نماذج جني الأرباح عن التطوّر في المنطقة، تزداد رغبة المستهلك واستعداده لدفع المال مقابل المحتوى.
من المتوقّع أن تزداد إيرادات الإعلانات الرقمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمعدّل نموٍّ سنويٍّ مركّب بنسبة 27% مع نموّ إيرادات الإعلانات الخلوية بنسبة 534% بحلول عام 2017.
على صعيد آخر، يشير تقرير "نظرة على الإعلام العربي: الشباب، والمحتوى، ووسائل الإعلام الرقمية" Arab Media Outlook: Youth, content, digital media، إلى وجود نمو ملحوظ في قطاع الإعلام المدفوع مقارنة بقطاع الإعلان.
ويجد التقرير أنّ الإنفاق على الإعلان سيزداد بنسبة 2.5% سنويًا في الفترة من 2016 وحتى 2018، وأنّ الإنفاق على الإعلام المدفوع سينمو بنسبة 3.7% خلال الفترة نفسها بدعم من ألعاب الفيديو واشتراكات التلفزيون المدفوعة.
ومع تحويل المعلنين وأصحاب العلامات التجارية والوكالات الإعلامية ميزانياتهم نحو تسويق الإعلام الرقمي، نستطيع القول بأنّه حان الوقت لتقدّم الشركات الناشئة لعملائها فوائد جذب العملاء اعتماداً على البيانات ودراسات حالات قيمّة حيال تفاعل المستخدم.
ومن الأمثلة على شركات الإعلام الرقمي التي أقنعت الناس بالدفع، شركة "خرابيش" kharabeesh، وهي التي تلقّت مؤخّراً استثماراً من "ومضة كابيتال" بعد أن أنتجَت محتوىً إعلاميّاً حديثاً وتفاعليّاً ليناسب مطالب عملاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتطلّبين أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
هذه الشركة تُنتج وتدير وتروّح المواهب العربية عبر "يوتيوب" و"فايسبوك" و"إنستجرام" و"سناب تشات" باستخدام خططٍ بديلة للإعلان وجنى الأرباح، وهي تطوّر منصّةً مدمجة قابلة للتوسع لمنتجي المحتوى والشركات؛ كما تطوّر تكنولوجياتٍ تسمح بتقديم تقارير فوريّة عن الأرقام، مثل عدد الزيارات والتفاعلات وتسمح للمعلنين ومنتجي المحتوى بتحميل محتواهم الخاص.
لا شكّ في أنّ نماذج عمل جديدة سوف تنشأ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمساعدة شركات الإعلام الرقمي في سعيها إلى إدارة المحتوى، وتفعيل توزيع منظّم وثابت وتحسين عمليّة تحقيق الأرباح. وفي هذا السياق، ستشكّل التكنولوجيا والحلول التحليلية ركيزة هذا التطوّر فيما يتأقلم مجال الإعلام الرقمي مع الفرص والتحدّيات المتاحة فيه.
الصورة الأساسية من "سيكوند واتش" Second Watch.