الابتكار لا يتعلّق بالذكاء فحسب بل بالمنطق أيضاً
إذا تساءلتَ يوماً كيف تمكّن أجدادنا من ابتكار التقنيات التي تعتمد عليها حياتنا اليومية كالثلاجة، والسيارة والهاتف، فسؤالك خاطئ.
في كتابه 'كيف وصلنا إلى هنا: الاختراعات الستّ التي شكّلت العالم الحديث' How we got to now: Six innovations that made the modern world، يستبدل ستيفن جونسون هذا التساؤل بتساؤلٍ آخر: ما الذي تواجد قبل الثلاجة ليوحي ببدء تخزين الأكل في صندوق بارد؟
عوضاً عن النظر إلى اختراعٍ ما بدهشةٍ ودراماتيكيةٍ تَجعل من المُخترع عبقريّاً ليس له مثيل، يدعو جونسون القرّاء إلى اعتبار الاختراع حصيلةً لسلسلة اختراعاتٍ أخرى.
يتناول جونسون في كتابه الذي صدر في عام 2014 ستة اختراعات/اكتشافات أدّت إلى ما نحن عليه في حياتنا المعاصرة: الزجاج، البَرد، الصوت، النظافة، الوقت، والضوء. في كلّ موضوعٍ من هذه المواضيع يناقش الكاتب تاريخ وتقنية الاختراعات ذات الصِّلة، ويسرد أسبابها وآثارها.
أثر طائر الطّنّان The hummingbird effect
تستند نظرية الكتاب على مبدأ 'أثر طائر الطّنّان' التي تشير إلى أنّ "الاختراعات تبدأ في محاولةٍ لحلّ مشكلةٍ ما، ولكنّها حالما تُصبح جزءاً من الدورة الطبيعية ينتهي بها المطاف إلى التأثير باختراعاتٍ أخرى".
من الأمثلة على ذلك، مطبعة غوتنبرغ. عندما اخترع غوتنبرغ الطباعة لم يكن في حسبانه أنّ ابتكاره سيؤدي إلى اختراع النظارة الطبيّة، وأنّ النظارة بدورها ستحفّز الاختبار بالعدسات الذي جعل اختراع المجهر أمراً ممكناً.
وبالمثل، عندما ابتكر ريجينالد فيسيندن نظاماً مائيّاً يقوم بتعقّب الجبال الجليدية في أوائل القرن العشرين، لم ينوي لتقنيّته أن تؤدي إلى اختراع الموجات فوق صوتية ultrasound بعد عدّة عقود.
بالرغم من التشابه بين نظريّتَي 'أثر طائر الطّنّان' و'أثر الفراشة'، يعتبر جونسون أنّ التّغيّرات الناجمة عن النظرية الثانية لا يمكن تعقّب أسبابها ـ لا يمكن ربط ذرّات الهواء المُحيطة بالفراشة بالإعصار الأطلسي. بالطبع يوجد ترابطٌ بالمعنى العام لأنّ كلّ شيءٍ مترابط ببعضه البعض، ولكن لا يمكن تحديد علاقةٍ معيّنة يمكن استخلاص أنماطٍ مُفيدة منها على عكس التغيّرات الناجمة عن النظرية الأولى والتي تُحدِث تغيّراتٍ منطقيةً يمكن دراستها وتحليلها لاستنتاج 'القريب المتوَقّع'.
القريب المُتوّقع Adjacent possible
يدلّ مفهوم القريب المُتوّقَع على احتماليّة تخيّل ابتكاراتٍ مُستقبليّةٍ في حال تمّ توفير "الأدوات، والتشبيهات، والمفاهيم، والتحليل العلمي لوقتٍ مُعيّن". هذا يعني أنّ المُعطيات المُتواجدة ضمن سياقٍ مُحدّدٍ تُشكل المُكوّنات المُستخدَمة في اختراعاتٍ مُستقبليّة.
"مهما كنتَ ذكيّاً، لن تتمكّن من اختراع الموجات فوق صوتية قبل اكتشاف الموجات الصوتيّة"، يشير جونسون في كتابه.
اختراع مُتعدّد - Multiple invention
يعتبر جونسون أنّ التعامل مع اختراعٍ وكأنه أحادي الجانب، بمعنى انّه مُرتبطٌ بمخترعٍ واحد فقط، خطأً شائعاً.
بفضل القريب المُتوقّع الذي يتيح لنا فرصة التنبؤ بالمستقبل، تأتي معظم الاختراعات بشكلٍ عنقوديٍّ بحيث يستطيع أكثر من مُخترعٍ لا صلة لهم ببعضهم البعض الوصول إلى اكتشافٍ مُطابق. ويعني هذا أنّ الابتكار مُحتّم، فإذا لم يفلح 'س' في اختراع أداة مُعيّنة، سيفلح 'ص' و'ع'.
في المحصّلة، وبالرغم من أنّ المؤلّف يُظهر امتنانه وإعجابه بالمخترعين لإصرارهم ولابتكاراتهم التي ساهمَت في تطوّر البشريّة، إلّا أنّه يُنبّه من الشخصنة التي قد تُشوّش على حقيقة أنّ للمخترع دوراً كامناً في تسيير اختراعه الذي يواكب تطوّراً طبيعيّاً ومنطقيّاً.
وبحسب الكاتب، فإنّ الاختراع هو ما يأتي قبل وبعد سلسلةٍ من الاختراعات الأخرى، وليس إنجازاً فردياً ينشأ بفعل الصدفة أو بفضل إنسانٍ واحد.