لا تطلب التغيير بل اصنعه بنفسك [رأي]
طُلِب منّي إلقاء خطابٍ في حفل التخرّج في جامعة خليفة بن حمد في الدوحة، في الأول من أيار/مايو، وهذه نسخة محرّرة عنه.
سأخبركم اليوم عن شيءٍ أدعوه "قدرة اليلّا" Power of Yalla وكيف غيّر حياتي. ولكن قبل ذلك، اسمحوا لي أن أعبّر عن فخري بالتواجد معكم اليوم، خصوصاً وأنّني لم أكن ما تسمّونه الطالب المثاليّ، بل كنتُ في الواقع مشاغباً في المدرسة.
يمكن القول إنّ أساتذتي كانوا يفضّلون بقائي خارج الصفّ أكثر من داخله. ولكنّني اليوم أدركتُ أنّ هذه المشاغبات كانت أساس مسيرتي الريادية.
حبيب حداد، الصورة إلى اليسار.
أوّل غزوةٍ لي لعالم الشركات الناشئة كانت في سنّ الـ13 عاماً.
لقد نشأتُ في لبنان بالقرب من بيروت، حيث بدأتُ مع مجموعةٍ من أصدقاء الحيّ الذي أسكن فيه أوّل أعمالنا التجارية. كنّا نحبّ الأفلام وكذلك كنّا نعرف كيفية التعامل مع الحاسوب، لذلك قرّرنا نسخ أشرطة فيديو مهرّبة وبيعها.
أنشأنا متجراً في منزل صديقي سمير حيث كانت غرفة نومه بمثابة مختبر الإنتاج وسريره بمثابة المخزن. لقد كنتُ فخوراً جدّاً بعملي فذهبتُ وأخبرتُ أصغر أخوالي، فأخبر أمّي، فأجبرَتنا على إغلاق المتجَر، وبالتالي كان علينا تصفية العمل.
الدرس 1: من هذا الفشل الأوّل يأتي الدرس الأوّل. "قدرة اليلّا" تتمحور حول تحدّي النظام، والخروج على القواعد أحياناً، ولكن دائماً وقبل كلّ شيءٍ يجب أن يبقى المرء أخلاقياً.
كُن أنتَ التغيير. (الصورة من بانكسي" Banksy)
بعدما أنهيتُ دراستي في "الجامعة الأميركية في بيروت" AUB عام 2002 وتخرّجتُ كمهندس كمبيوتر، ذهبتُ إلى كاليفورنيا من أجل متابعة الدراسات العليا حيث كان يراودني حلم العمل في قطاع السينما ولم أكن أعلم أنّه بات من المستحيل على شخصٍ عربيٍّ الحصول على وظيفةٍ في هوليوود بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
في الوقت نفسه، كان لي صديقٌ درس في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" MIT اعتدتُ أن استخدم حسابه وكلمة المرور الخاصّة به لتسجيل الدخول إلى لوحة المناقشة في الجامعة. وفي يومٍ من الأيّام التقيتُ بمجموعة باحثين يعملون على تكنولوجيا مذهلة لرسومات الكمبيوتر من شأنها أن تُحدِث ثورةً في كيفية إنشاء الألعاب والأفلام.
سافرتُ إلى بوسطن في الأسبوع ذاته وانضممتُ إليهم من دون تردّد كمهندسٍ مؤسّس للشركة الناشئة المؤسّسة حديثاً. ومن ثمّ حصلنا على ملايين الدولارات وفتحنا مكاتب جديدة في جميع أنحاء البلاد وبات لدينا عشرات الموظّفين، وكلّ هذا في سنةٍ واحدة.
ولكنّنا فعلنا كلّ شيءٍ على نحوٍ خاطئ؛ لقد أفرطنا في هندسة المنتَج وأمضينا الكثير من الوقت في تحسين التكنولوجيا حتّى نسينا ما يريده العملاء فعلاً. وفي أحد الأيام، جئتُ إلى المكتب فوجدتُ أنّ المستثمر قد سيطر على مجلس الإدارة وطرد الجميع.
الدرس 2: من هذا الفشل الثاني يأتي الدرس الثاني. "قدرة اليلّا" تكمن في أن يكون المرء مشاكساً وسريعاً. انسَ الخطّة الرئيسية. يمكن أن يكون لديك أفضل تكنولوجيا في العالم، ولكن ما الفائدة إذا لم يكن أحدٌ يستخدمها.
بعد ذلك جاء العام 2006 ومعه جاءَت الحرب الإسرائيلية على لبنان. كانت المرّة الأولى لي خارج لبنان خلال الحرب. لقد شعرتُ بالإحباط والعجز. كانت البلاد تُدمّر. لذا قررتُ إطلاق حملةٍ لجمع التبرّعات والمساعدة في جهود الإغاثة - ولكن في حينها كنتُ مجرّد مهندس كمبيوتر في الـ26 من العمر، فمَن سيستمع إليّ؟ كنتُ بحاجةٍ إلى مصداقيةٍ أعتمد عليها.
لا تطلب الإذن، تصرّف وحسب. (الصورة من "ريليف ليبانون" Relief Lebanon)
وبالتالي أجريتُ اتصّالاً بالصليب الأحمر الدولي في جنيف، وطلبتُ منهم فتح حسابٍ مصرفيٍّ مخصّصٍ للبنان، واعداً إيّاهم بجمع الدعم من مئات المساجد والكنائس ومن آلاف المجتمعات الأخرى. بدوتُ مقنعاً لدرجة أنّهم فاجأوني وقبلوا.
والآن عَليّ التنفيذ؛ كان لا بدّ من تنظيم حملاتٍ لجمع التبرّعات في جميع أنحاء أمريكا الشمالية، وهذا ما لا أستطيع أن أفعله بمفردي إطلاقاً. لذلك توجّهتُ إلى الإنترنت وتواصلتُ مع شخصَين لبنانيّين يحملان الفكرة ذاتها، واحد في ولاية مينيسوتا والآخر في سياتل.
عملنا سوياً وأطلقنا رسمياً "ريليف ليبانون" Relief Lebanon، ثمّ راح ينتشر الأمر كالنار في الهشيم بحيث جمعنا في شهرَين حوالي مليونَي دولار أميركي من التبرّعات الفردية. كما اكتشفنا فيما بعد أنّنا حصلنا على جائزةٍ من الأمم المتّحدة، ولكن بما أنّ الحركة كانت مجهولةً لم يعرفوا مَن يَدعون لاستلامها.
الدرس 3: لعلّ هذا من أقوى سِمات "قدرة اليلّا". إذا كان شيءٌ يهمّك يتعرّض للتخريب فلا تقُل شيئاً، بل افعَل شيئاً. لا تطلب الإذن، تصرّف وحسب.
خلال حرب عام 2006، كانت أُسرَتي كلّها في لبنان، وأنا كنتُ متوتّراً جدّاً. كنتُ بحاجةٍ للاطمئنان باستمرار عليهم، ولكن لم يكن ذلك ممكناً على الهواتف فاضطررتُ لمتابعة الأخبار على شبكة الإنترنت.
وظِّف شبكتك للقيام بشيءٍ أكبر منك. (الصورة لـ حبيب حداد)
لم يكن لديّ لوحة مفاتيح عربية، وبالتالي لم أستطِع البحث عن الأخبار على الإنترنت. في الوقت عينه، كنتُ أتحدّث مع أصدقائي الذين عادوا إلى الوطن باللغة العربية إنّما باستخدام الأحرف والأرقام الإنجليزية. صدمَني ذلك، وفكرتُ لماذا لا نسمح للناس بطباعة كلمات عربية حقيقية باستخدام الأحرف الإنجليزية اللفظية.
وهكذا وُلِدَت فكرة "يملي" Yamli، تكنولوجيا البحث والطباعة باللغة العربية.
لتطوير هذه التكنولوجيا كنتُ بحاجةٍ إلى شريكٍ مؤسِّسٍ قويّ، وكان عماد جريديني واحداً من أذكى الناس الذين تعرفتُ عليهم في ذلك الوقت، وكان أيضا شريكي العربي الوحيد في الشركة الناشئة الأولى لرسومات الكمبيوتر.
في ذلك الوقت، كان لدى عماد شركتُه الناشئة الخاصّة وكان يجب أن يقتنع بذلك. لذا تعقّبتُه في النادي الرياضيّ الذي كان يرتاده في بوسطن لمدّة شهر، وتدرّبتُ على الآلة الرياضية إلى جانبه حتّى أقنعتُه.
بدأنا بالعمل على هذه التكنولوجيا، وكان عليّ العودة إلى الكتب العربية التي كنتُ أتجنّبها في صغري. وبعد عدّة أشهر، أطلقنا "يملي" فأقلعَتْ بسرعة وحصلنا على تغطيةٍ إعلاميةٍ مذهلة والكثير من الجوائز والكثير من المستخدِمين. حتّى أنّ "جوجل" Google و"مايكروسوفت" Microsoft نسختا منتَجَنا في مرحلةٍ ما، ولكنّ منتَجاتهما كانت أقلّ دقةٍ بكثيرٍ ممّا لدينا.
مع ذلك، لم يكن بمقدورنا جني المال من هذا المنتَج. وبالرغم من حصولنا على بعض التمويل من مستثمرين، إلّا أنّنا لم نكن نجني مالاً يكفي للاستمرار. حاولنا اتّباع نموذج الإعلانات، غير أنّ عدد العرب الذين أرادوا إنفاق المال على الإنترنت في ذلك الوقت كان قليلاً. هناك ليلةٌ أذكرها جيداً، وهي حين قرّرتُ التحقّق من حسابي المصرفيّ عبر الإنترنت، فتبيّن لي أنّ كلّ ما بقي معي هو بضع مئاتٍ من الدولارات في الوقت الذي كانت فيه جميع بطاقات الائتمان خاصّتي على شفير النفاد. وفي حين كان الجميع يروّج لنا على أنّنا مبدِعون عرب، كنتُ أنا مفلساً ومضطرباً.
في الليلة ذاتها قرّرتُ أنّ هذا غير مقبول؛ يجب أن يكون هناك وسيلةُ ما. لذلك بقيتُ مستيقظاً طوال الليل أتصفّح مواقع الشركات التي يمكن أن تكون من عملائنا، ومن ثمّ أرسلتُ الكثير من الرسائل الإلكترونية وذهبتُ إلى السرير.
وممّا يثير الدهشة، أنّه في الوقت الذي استيقظتُ فيه وجدتُ ردّاً من شركةٍ كانت تبحث لسنواتٍ عن تكنولوجيا كالتي لدينا. وبعد بضعة أسابيع وقّعنا الصفقة، وامتلأتْ حساباتُنا المصرفية، وبات لدينا نموذج جديدٍ نركّز عليه. وبعد ذلك بعام، وقعنا شراكةً مع شركة "ياهو" Yahoo.
اليوم، لا تزال "يملي" قويةً، وهي التي سمحَت لملايين المستخدِمين بكتابة أكثر من 10 مليارات كلمةٍ باللغة العربية، أي ما يعادل 120 ألف كتاب.
الدرس 4: هذا التقلّب علّمني الكثير. وهنا يظهر الدرس الرابع لـ"قدرة اليلّا": لا تنخدع بالجوائز والتغطية الإعلامية. استمرّ بالتركيز على الهدف ولكن كُن مستعدّاً للتكيّف، وحافظ على مرونةٍ مستمرّة.
فريق "يملي": حبيب حدّاد وعماد جريديني. (الصورة من حبيب حداد)
في الوقت الذي كنتُ أعمل فيه على بناء "يملي"، كنتُ أقسّم وقتي بين بوسطن والعالم العربي.
لقد بنيتُ صداقاتٍ متينةً مع روّاد الأعمال العرب وكنتُ معجباً بالطّاقة المذهلة والمرونة لديهم، لكنّني لاحظتُ أنّهم لا يحصلون على الحدّ الأدنى من الدعم من بيئاتهم الحاضنة بالمقارنة مع ما كان متوفّراً لي في بوسطن.
لذلك في عام 2011، وبعد إنجاز صفقتنا مع "ياهو"، قرّرتُ أنّ الوقت قد حان للعودة إلى منطقة الشرق الأوسط. ومن ثمّ مع مرشِدي فادي غندور، أطلقنا "ومضة" لبناء واحدةٍ من أكبر المنصّات لدعم ريادة الأعمال والاستثمار فيها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية ساندنا الآلاف من روّاد الأعمال، وغطّينا قصصهم، وقمنا بإرشادهم، كما واستثمرنا في الشركات الناشئة الخاصّة بهم.
في منطقةٍ تُعدّ فيها معدّلات البطالة من الأعلى [في العالم]، لا تقدّم ريادة الأعمال نفسها كموفّرٍ لفرص العمل وحسب، بل أيضاً كأداةٍ للتفاؤل والتغيير الإيجابي.
يشكّل روّاد الأعمال هؤلاء قدوةً للمنطقة - ليس كستيف جوبز أو بيل غايتس ولكن روّاد أعمال عرب على صعيد المنطقة؛ روّاد أعمالٍ مثل هند حبيقة التي ابتكرَت جهاز السباحة "إنستابيت" Instabeat الذي يمكن ارتداؤه، أو جهاد قواص ابن الـ17 عاماً الذي ترك الدراسة للعمل على بناء شركةٍ ناشئةٍ للتجارة الإلكترونية الاجتماعية تنافس "إي باي" Ebay. أو علاء سالا، رائد الأعمال الذي خرج من إحدى أكثر المجتمعات المحرومة في ضواحي عمّان لبناء ما يُعتبَر اليوم أكبر مكتبةٍ عربيةٍ على الإنترنت.
الدرس 5: روّاد الأعمال هم تجسيدٌ حقيقيّ لـ"قدرة اليلّا". والدرس الأخير هو التالي: لدينا جميعاً طاقة مدهشة في داخلنا، نحن لا نُولد مع مجموعة مهارات، ولا حتّى ريادة الأعمال، بل نحن ننمّيها، فكلّنا لدينا "قدرة اليلّا" هذه وإذا سخّرناها جيداً يمكننا إحداث أثرٍ كبير.
خلال فعالية "ميكس أن منتور" القاهرة - 2013. (الصورة من "ومضة")
عندما تنطلقون في مسيراتكم الجديدة ستواجهون بيئةً صعبةً لا يمكن التنبّؤ بها. المستقبل ليس محدّداً، فهو موجودٌ لكي نتصوّره ونُنشِئه. ولكي تكونوا جزءاً من هذا المستقبل لستم بحاجةٍ لأن تكونوا روّد أعمالٍ، بل ينبغي أن يكون لديكم المهارات الريادية.
علّقوا شهاداتكم على الحائط إذا أردتم، ولكن لا تفتخروا بها، بل اعتزّوا باللحظات والعلاقات. فالحقيقة هي أنّ الشهادات لا تحدّد مَن أنتم، وهي تفعل ما تفعلون أنتم بها. لا تتوقّفوا عن التعلّم ولا تستريحوا أبداً، فمناطق الراحة هي الثقوب السوداء للتطوّر.
في اللحظة التي تَشعرون فيها أنّه يمكنكم إعادة تنظيم كلّ ما حولكم ويمكنكم تحدّي التقاليد وتحسين الأمور، عندها لا يمكن أن تقفوا مكتوفي الأيدي وأن تكونوا مجرّد مراقبين في الحياة.
لذلك لا تنتظروا حصول التغيير، ولا تطلبوا التغيير، بل اصنعوا التغيير. تخيّلوا مستقبلاً أفضل وأنشئوه. هذه هي "قدرة اليلّا". إذهبوا واصنعوا التغيير.
شكراً لكم.
للاستماع إلى الخطاب بالكامل، شاهدوا الفيديو أدناه.