التوقيت ركيزة نجاح الشركة الناشئة: Gradberry نموذجاً
"لا أشبه أيّ مؤسسٍ في وادي السيليكون، فأنا لم أولد هنا ولم أنشأ هنا،" هذا ما تقوله إيبا مسعود لـ"ومضة" بعد 5 سنوات على تأسيسها "جرادبيري" Gradberry، منصّة توظيف الخرّيجين الجدد. فهي لا تزال تشعر وكأنّها لا تنتمي إلى هذا العالم، ولكنّ هذا لا يعني أنّها غير فخورة بما حققته.
غيّرت "جرادبيري" اسمها وعلامتها التجارية مؤخّراً إلى "تارا" TARA، وهي تكنولوجيا ذكاء اصطناعي تضمّ برنامج دردشة آلي chatbot يساعد في إدارة المشاريع التقنية. وفيما يشارك اليوم في شبكة "تارا" أكثر من 50 ألف مطوّرٍ، يتّضح أنّ التكنولوجيا وليس الحجم هي ما يدفعها إلى الأمام.
من جهة المستخدم، تبدو "تارا" كبرنامجٍ بسيطٍ للدردشة يساعد الشركات في كافة المراحل على تطوير مشاريعها التكنولوجيّة. أمّا في الواجهة الخلفيّة، فيجرى محرّك "تارا" مسحاً آلياً لرمز المرشّح ويقيّمه بناءً على عواملٍ عدّة، مثل اللغة والتعقيد والأخطاء، ومن ثمّ يربط العملاء بالمرشّحين المناسبين لهم.
"أمّا التفاعل البشري، فيتمّ على مستوى إدارة الحساب وإدارة المبيعات،" بحسب مسعود.
عاود الكرّة
انطلقت "تارا" أوّلاً من دبي في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 تحت اسم "جرادبيري". كان الشريكان المؤسّسان، مسعود وسيد أحمد (الذي أصبح الآن المدير التقني في "تارا") يعتمدان على سياسة التمويل الذاتيّ والحدّ من النفقات، ويعملان من غرفة النوم بـ200 دولار فقط لتطوير الموقع الإلكترونيّ، بهدف الدخول إلى سوق توظيف الخرّيجين الجدد.
بحلول عام 2012، وصل عدد الطلاب المسجّلين لديهم إلى 8 آلاف طالب، كما كان لديهما 150 ربّ عمل مستعدّ لتوظيف الطلاب المناسبين لهم، ومنهم "جوجل" Google و"فيليبس" Philips.
منذ ذلك الحين، أجرَت الشركة تعديلات كثيرة على نموذج العمل. ففي عام 2013، قدّمت النسخة الثانية (2.0) من "جرادبيري" حصصاً دراسيّة عبر الإنترنت للطلاب، وأطلقت نظام "سمارت جراد" Smart Grad لتسهيل عملية البحث عن المواهب، بحسب الشركة.
وفي عام 2014 أعادت مسعود تحديد أهدافها مرة أخرى، حيث بدأت تسعى إلى السدّ الفجوة في مهارات محدّدة جدّاً بين الطلاب وأرباب العمل عبر منصّتها. وأتاحت للطلاب الذين يريدون إيجاد عملٍ فرصة التسجيل، كما سمحت لأرباب العمل المستقبليين بتمويل طلابٍ موهوبين لإكمال هذه الحصص.
عمل نموذج "جرادبيري" الجديد بنجاحٍ كبيرٍ، فقد حصلت على 38 ألف مستخدمٍ و1500 ربّ عمل مثل الشركة العملاقة "آي بي إم" IBM في عام 2014. ولكن "بالرغم من توظيف آلاف الخرّيجين، واجهنا معوّقات للنموّ لأنّ البيئة الريادية الابتكارية كانت فتيّة في ذلك الوقت،" حسبما تضيف مسعود.
من جهةٍ أخرى، اضطرّت "إنتيرنز مي" Internsme، وهي منصّة لتوظيف الخريجين الجدد أيضاً، إلى تنويع نموذج عملها في السنوات الأخيرة. ويشرح مدير تطوير استراتيجية التسويق في هذه الشركة، جوجال بارياني، أنّ "نموذج عملنا ارتكز في البداية على التدريبات، ولكنّنا الآن نعمل في إيجاد وظائف للخرّيجين الجدد وكذلك مع الناس الذين يريدون توظيف أشخاصٍ يتمتّعون بخبرة سنتين من العمل".
وفي حين يبقى الهدف تأمين وظائف للشباب، يلفت بارياني إلى أنّ "’إنتيرنز مي‘ توسّعت نحو مجال الشباب ككلّ عوضاً عن التركيز على سوق العمل فقط."
طريق سالكة
قد تصل "إنترنز مي" مع الوقت إلى المعوّقات نفسها التي واجهتها "جرادبيري"، وتحديداً ما تسمّيه مسعود 'معوّقات خاصة بالشرق الأوسط‘. فلقد "كان إيجاد المستثمرين مستحيلاً، وكلّ ما قمنا به ارتكز إلى الحدّ من النفقات والاستفادة القصوى من الموارد. ولكن في الشرق الأوسط قد يتعلّق الأمر كثيراً بمَن أكثر مِن ماذا تعرف،" حسبما تشرح.
في نهاية المطاف، شكّل الانتقال إلى وادي السيليكون منذ عامين ونصف العام خطوةً استراتيجيّة، بخاصةٍ وأنّ طموحات الفريق تركّزت على الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلات. ففي وادي السيليكون، يحظى مسعود وأحمد بتأشيرة دخول للأجانب من القدرات غير الاعتيادية Alien of Extraordinary Ability visa، وهو نوعٌ من تأشيرات الدخول يُعطى عادةً للمبتكرين.
وتقول مسعود إنّه "لكي ينجح الابتكار فعلاً في الشرق الأوسط، علينا أن نبتكر نظاماً مماثلاً [لوادي السيليكون]. ودبي متقدّمة في هذا الإطار إذ أنّها موطن للكثير من الثقافات والجنسيات".
في بادئ الأمر، انتقل الثنائي إلى بوسطن حيث دعمتهما حاضنة الأعمال "ماس تشالنج" Masschallenge، ومن ثمّ انتقلا إلى أسواق أخرى حيث شاركا وفازا بمسابقات عروضٍ للشركات الناشئة.
وفي عام 2015، انتقلت هذه الشركة الناشئة إلى الساحة العالميّة بدعمٍ من "واي كومبينايتور"Y Combinator.
في غضون عامٍ، تحوّلت "جرادبيري" إلى "تارا" التي ترمز أحرفها باللغة الإنجليزية إلى آلية إيجاد المواهب وتوظيفها (Talent Acquisition and Recruiting Automation). وقد باتت تعمل كمنصّةٍ ترتكز إلى الذكاء الاصطناعي لربط المواهب التكنولوجيّة بالمشاريع الكبرى، ولإدارة هذه المشاريع منذ اختيارها حتّى تسليمها.
أمّا تأثيرها الأوسع، بحسب مسعود، سيكون في زيادة مستوى الأعمال التكنولوجيّة في العالم العربي وزيادة الجدارة في قطاع التكنولوجيا.
الذكاء الاصطناعي
من مساعدة المتخرّجين الجدد على إيجاد عمل بدوام كامل إلى إنشاء برامج ذكاءٍ اصطناعي تساعد على التوظيف، يدخل تحوّل "جرادبيري" في إطار نقاش عالميّ يمكن اختصاره بالتالي: هل تنمو المكننة والذكاء الاصطناعي على حساب رأس المال البشريّ؟
تشير بعض الدراسات التنبؤية إلى أنّ قد يكون ذلك صحيحاً. وبحسب "جارتنر" Gartner، فإنّه بحلول عام 2020، ستساهم البرمجيات المستقلة عن التدخل الإنساني بـ5% من كافة التبادلات الاقتصاديّة.
لا تغيب هذه المعضلة الأخلاقيّة عن تفكير مسعود، غير أنّها ترى الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلات كفرصةٍ محتمّة وليس كخطرٍ، وتدعو للتفكير بالأمر على النحو التالي: "كلّ التفاعلات التي نؤدّيها في عملنا تحدث على منصّة تواصل بشكلٍ أو بآخر. وبالتالي، يمكن استخدام تعلّم الآلات لتحليل كلّ محادثة نُجريها، ومن ثمّ إنشاء نظامٍ يقدّم النصائح والاقتراحات عن أمور مثل كيفية كتابة هذا البريد الإلكتروني على سبيل المثال."
في النهاية، كلّ مشروع يتمّ من خلال "تارا" سوف يُنتج بيانات تزيد من ذكاء هذا البرنامج. وفي حين تشمل لائحة عملائها "سيسكو"Cisco و"فوربس" Forbes و"أورانج" للاتصالات Orange، تؤكّد مسعود "أنّ هناك إمكانياتٍ كبيرة لتحسين العمليات التي يتّبعها العملاء تشتمل عليها هذه البرمجيات".
التحوّل العالمي
تقول مسعود إنّ هناك توجّهاً عالمياً نحو سوقٍ من المهارات الحرّة، ما يحتّم الانتقال من إيجاد وظائف بدوام كاملٍ إلى إيجاد وظائف محدودة المدّة.
ولكن ّهذا الأمر يقتصر على وادي السيليكون، الأمر الذي يؤكّد عليه بارياني من "إنتيرنز مي" حيث يشير إلى أنّ المنطقة لم تتوجّه نحو العمل الحرّ بعد. "عندما نذكر اسم شركة كبرى نحظى بتعليقات كثيرة، ما يدلّ على أنّ الناس يريدون أن يكبروا ويتعلّموا في منظّمة عريقة".
وكما يظهر في إحصاءٍ أجرته الشركة ضمّ 1500 طالب جامعيّ، فإنّ الشباب في الإمارات لا يزالون يقدّرون فرص النموّ ضمن الشركات المعروفة كما يبدون قلقهم حيال فرص العمل الثابت.
في المقابل، يكمن التغيّر الحاصل في أنّ بعض المجالات لم تعد توظّف مواهب كبيرة ومكلفة، بل أصبحت تستثمر في تنمية المواهب الصغيرة مثلما يحصل في قطاع النفط والغاز. ويقول بارياني إنّه "في احدى الفترات كان من الطبيعي أن توظّف مهندساً مقابل 60 ألف درهم إماراتي (16 ألف دولار) في الشهر، لكنّ هذا لا يحصل اليوم".
الخطوات التالية
يعاني مجال تكنولوجيا المعلومات، وهو ركيزة عمل "تارا" (في الوقت الحالي)، من غياب الكفاءة في الآونة الأخيرة. ولفتت دراسة ضمّت 5400 مشروعاً في تكنولوجيا المعلومات أجرتها شركة "ماكينزي" Mckinsey في عام 2012، إلى أنّ الخسائر الكبرى لم تَنتج عن البرامج غير الفعّالة بل عن عدم الكفاءة لدى البشر. وقد وصلت قيمة الخسائر إلى 66 مليار دولار، وسجّلت المشاريع زيادة في التكلفة تفوق المعدّل بـ45%. كما أنّ المشاريع التي تخطّت ميزانياتها المحدّدة قد واجهت أزمات غير متوقّعة أدّت إلى أضرار جسيمة لا يمكن إصلاحها.
لذلك، من المنطقي أن يقوم مشروع مسعود التالي لـ"تارا" على بناء التحليلات التنبؤية في نظامها من أجل إزالة مخاطر ارتكاب الأخطاء أو عدم الكفاءة البشرية. فمحّرك "تارا" التنبؤي يعتمد على بيانات المشاريع المتوفّرة، ويمكن للعملاء أن يتوقّعوا عرض أسعار للمشاريع الكبرى في غضون 48 ساعة، وللمشاريع الصغيرة والمتوسطة في غضون 24 ساعة.
تدّعي مسعود أنّ برنامجها يقدّم أسعاراً للمشاريع بنصف المدّة المطلوبة عادةً وبـ40% من التكلفة. لكنّ التعقيد سيكون في تطبيق هذه الشفافية والنظام الآلي في مجالات يختلف فيها السعر بحسب نوعية العمل، مثل الكتابة الإعلانية. ولكن "عندما تتوفّر لدينا البيانات الكافية، سوف نطبّق هذا النظام في مجالات أخرى،" كما توضح مسعود.
يضمّ فريق "تارا" الآن 9 موظّفين، في حين تركّز مسعود على توظيف أشخاصٍ في فريقَي الهندسة والبيع لديها. ومع وجود منافسة قويّة من شركاتٍ مثل "أنتابت" Untapt و"كوديليتي" Codility و"تريبليبابت" Triplebyte و"فيتيري" Vettery، قد تواجه "تارا" الإفلاس، إلّا أنّ مسعود تتوقّع احتدام المنافسة في وادي السيليكون.
بالرغم من أنّ 80% من أعمالها تأتي من الولايات المتحدة، تلفت مسعود إلى أنّ جزءاً كبيراً من عملائها هم في دبي. وتضيف أنّ "عدداً كبيراً من روّاد الأعمال الصغار [في المنطقة] سيحظون بفرص لم أحظَ بها عندما بدأتُ بالعمل".
إذا كان يمكن لروّاد الأعمال في المنطقة تعلّم أيّ شيء من نجاح "تارا" في وادي السيليكون، سيكون أهمّية التوقيت: أي أن تعرف متى تدخل إلى السوق، ومتى تخرج منها، ومتى تغيّر نموذج العمل، ومتى تتخلّى عما تعمل عليه، ومتى تنتقل إلى الأمر التالي.