كيف تسخر البيانات الكبيرة لصنع القرار في قطاع الأعمال؟ [رأي]
جمع البيانات لا يكفي، فالاستفادة منها ضرورية لاستمرار المؤسّسة كبيرة كانت أم صغيرة. (الصورة من "فيتافلاكس" Vitaflux)
كميات كبيرة من البيانات يتمّ توليدها من قبل المؤسَّسات والحكومات ومستخدمي الإنترنت وغيرهم.
وهذه البيانات تتضمّن نوعين، مجموعات مفتوحة يمكن الوصول إليها بحرية عبر الإنترنت، وربّما مجموعات خاصّة كبيرة تخصّ المنظّمات التي تولّدها (أوردَت "ماكينزي" McKinsey أنّ 15 من أصل 17 قطاعاً في الولايات المتحدة يمتلكون بيانات مخزّنة لكلّ شركة أكثر من مكتبة الكونغرس). وحقيقة الأمر أنّه بات يوجد الكثير من البيانات اليوم، بحيث أنّ مصطلَح البيانات الكبيرة أصبح يُعتمَد للتعبير عنها.
حتى وقتٍ قريب، كان التحدّي الرئيسي بالنسبة لمعظم الناس يكمن في الوصول إلى البيانات، ولكن في الوقت الحالي تغيّر الوضع وأصبح التحدّي الآن يكمن في كيفية استخدام هذه البيانات والاستفادة منها.
يمتلك تحليل البيانات أهمّيةً خاصّة لرجال الأعمال والمدراء الذين قد يرغبون في تحويل البيانات إلى معلومات يمكن استخدامها في صنع القرار. وباستخدام هذه البيانات من خلال تحليلات متطوّرة وعن طريق اعتماد مقاييس رئيسية بطريقةٍ سهلةٍ وكفؤة، سنجد أنفسنا أمام فَهمٍ ورؤىً لم يسبق لهما مثيل في مختلف جوانب تخطيط الأعمال تشغيلياً واستراتيجياً.
يهدف ذكاء الأعمال إلى جمع البيانات ذات الصِّلة في مجالٍ واحد أو أكثر، من أجل تحديد التوجّهات السابقة، وإنشاء النماذج التنبؤية، واستخدام تلك النماذج لاتّخاذ القرارات. وعلى سبيل المثال، يمكن لمثل عملية التحليل هذه في مجال البيع بالتجزئة أن تحدّد سلوكيات مستهلِكٍ أو مجموعةٍ من المستهلكين (مثلاً: تحديد المسافرين على درجة رجال الأعمال، أو محبّي النشاطات، أو زوّار مطاعم الوجبات السريعة). كما ويمكن أيضاً استخدام النتيجة لتكييف حملات التسويق والإعلان والترويج، وحتّى عرض المنتَجات في المتجَر وإدارة المخزون.
ولكن كيف يمكن ذلك؟
لنعود خطوةً إلى الوراء؛ لنفترض أنّك تمتلك مجموعةً من البيانات، فكيف تقوم بعملية التحليل؟ هذه المجال واسع، ولكن بعض التطبيق العملي قد يساعدك في تحديد المهارات التي يجب عليك أن تأتي بها من الخارج أو أن تنمّيها داخل الشركة، للاستفادة من مزايا علوم البيانات.
تقوم الخطوة الأولى على إنشاء شجرة لبرنامج التشغيل driver tree، وهي تحليلٌ للعلاقة بين مقاييس الاهتمام metrics of interest وغيرها من المعايير التي تؤثّر على هذه المقاييس. على سبيل المثال، لنفترض أنّك مهتمٌّ بأرباح شركتك، وهذه الأرباح تعتمد على الإيرادات والتكاليف؛ وبدورها، تعتمد الإيرادات على حجم المبيعات وسعر مبيع الوحدة، بينما تعتمد الكلفة على التكاليف الثابتة للشركة، وعلى التكاليف المتغيرة التي تعتمد أيضاً على حجم المبيعات وسعر مبيع الوحدة. وبالتالي، عندما يتمّ تحديد العلاقات بشكلٍ صحيح، يمكن للمرء أن يرسم خريطةً لها في جداول برنامج "إكسل" Excel ومن ثمّ يبدأ التحليل الفعليّ.
يبدو هذا كنموذجٍ بسيط، وهو بالفعل كذلك؛ ولكن ينبغي عدم نسيان أنّ الصعوبة ليسَت في ترجمة مشكلةٍ معقّدة في الأعمال على شكل نموذجٍ معقد، بل في تحويل نموذج عملٍ معقّد إلى سلسلة نماذج ذات مغزى. مع النموذج أعلاه، تصبح المهام التي تتناول تحليل الاستجابة sensitivity analysis والمحاكاة ممكنة. ويمكن العمل على تحليل الاستجابة من خلال تغيير خلية إدخالinput cell في جدول البيانات spreadsheet (مثلاً، الحجم Volume)، وتسجيل الآثار المترتّبة ضمن خلايا النتائج output cells (مثلاً، الأرباح Profit). وبهذه الطريقة، يمكن العمل على البيانات التي تمّ جمعها مسبقاً، بحيث أنّ دمج المعلومات الخاصّة بالحجم volume وجداول البياناتData Tables في برنامج "إكسل" على سبيل المثال، يمكن أن يساعد في إنتاج الرسوم البيانية مثل "تورنادو" Tornado diagrams.
تحليل الاستجابة مفيد، غير أنّه لا يلحظ آثار التغييرات المتزامنة في العديد من المعايير، ولا يلحظ الاحتمالات. والتقنيات مثل محاكاة "مونتي كارلو" Monte Carlo (أخذ العينات العشوائية المتكرّرة للحصول على النتيجة الرقمية)، تسمح لك بالتدقيق في الآثار المترتّبة على التغييرات المتزامنة للعديد من المدخَلات inputs، وتضمين التغييرات المحتملة للمعايير، بحسب مجموعة البيانات السابقة. ويمكن لمحاكاة "مونتي كارلو" أيضاً حساب قيمة الأرباح الناتجة عن العدد الكبير للقيَم الممكنة لكلٍّ من المعايير المتغيّرة والمؤثّرة (أي السعر، والحجم، والكلفة المتغيّرة لكلّ وحدة). وفي المحصّلة، ستُظهِر نتيجةُ المحاكاة التوزيعَ المحتمل للربح.
الشركات الكبرى مثل "جنرال موتورز" General Motors و"إيلي ليلي" Eli Lilly و"بروكتر آند جامبل" Procter and Gamble و"سيرز" Sears، تستخدم المحاكاة لتقدير متوسّط العائدات والمخاطر المتعلّقة بالمنتَجات الجديدة: تستخدم "جنرال موتورز" المحاكاة لأنشطةٍ مثل التنبؤ بصافي دخل الشركة، وتحديد التكاليف الهيكلية وتكاليف الشراء، وتحديد مدى حساسيته تجاه مختلف المخاطر (مثل التغييرات في أسعار الفائدة وتقلّبات أسعار الصرف).
و"ليلي" تستخدم المحاكاة لتحديد طاقة المصنع المثلى التي ينبغي اعتمادها عند إنتاج كلّ دواء؛ و"بروكتر آند جامبل" تستخدم المحاكاة لتجنّب مخاطر أسعار الصرف الأجنبية؛ و"سيرز" تستخدم المحاكاة لتحديد وحدات كلّ خطّ إنتاج ينبغي طلبها من المورّدين.
من الناحية العملية، فإنّ المعايير التي ينبغي التركيز عليها لا حدود لها: شكاوى العملاء، وفترة الانتظار اللازمة للمراجعات، وتأخير الرحلات، ووقت التسليم، ودقّة الفواتير، وهكذا دواليك.
البيانات الكبيرة تعني أيضاً فرصاً كبيرة لروّاد الأعمال. (الصورة من "سيراكوم" Syracomm.de)
من ناحية تحليل البيانات، يمكن القيام بأكثر من ذلك بكثير، وما تمّ ذكره أعلاه لا يعدو كونه طرقاً على الباب. فالأنواع الأخرى من التحليل يمكن أن تنطوي على تصوير البيانات ورسم المنحنيات، ومنحنيات الانحدار، والتنبؤ، وأشجار القرار decision trees، وغيرها الكثير. وعلى سبيل المثال، يسمح تحليل الانحدار الاقتصادي بإنشاء نماذج اقتصادية استناداً على بيانات سابقة، من أجل الحصول على التنبؤات وغيرها من البيانات غير الموجودة سابقاً، يقابلها مسارات عمل متوقَّعة يمكن فحصها. وبالتالي، يمكن لمجموعات البيانات أن تساعد في تحليل الماضي وأيضاً في التخطيط للمستقبل.
من هذا الأمر، يستفيد المدراء بشكلٍ كبير وعلى صعيدَين.
في المقام الأول، يمكن للبيانات أن تولّد ميزةً تنافسيةً هامّة لا يمكن تجاهلها؛ ولتحقيق هذه الإمكانية، قد تحتاج الشركات إلى بناء خبرات داخلية أو الاعتماد على مصادر خارجية، سواء من حيث الأدوات أو الخبرات.
وذلك مهمّ أيضاً لإعداد عملياتٍ سليمةٍ لجمع البيانات الداخلية من كامل الأنشطة الخاصّة بالأعمال، مثل: ردود الفعل والملاحظات من فرق المبيعات، والمورّدين، والعملاء؛ والاقتراحات من الفرق الهندسية، وفرق التسويق، والإدارة التنفيذية، والباقي. وأخيراً، لا بدّ من نشر النتائج في كامل المؤسَّسة، مع مراعاة تخصيص النتائج لصالح أوساط داخلية محدّدة.
الأمر المهمّ الثاني يكمن في أنّ البيانات الكبيرة قد فتحَت الباب على مصراعَيه أمام فرص كبيرة في ريادة الأعمال. فاليوم، تسعى المشاريع الجديدة لسدّ الثغرات في المجالات وعمليات التنفيذ المرتبطة بالبيانات الكبيرة.
في هذا السياق، تقوم شركاتٌ مثل "بلاتفورا" Platfora و"داتامير" Datameer و"تريفاكتا" Trifacta بتسهيل عملية جمع البيانات لأغراض التحليل؛ وعلى صعيد التحليل بحدّ ذاته، حقّقَت "تابلو سوفتوير" Tableau Software حضوراً قوياً لها في السوق، في حين تقوم شركاتٌ أخرى بشقّ طريقها وإنشاء أسواق لها، سواء من ناحية تصوير البيانات (مثل "كارتو دي بي" CartoDB ، و"كليك" Qlick)، أو مراقبة سمعة الشركات على الإنترنت (مثل "سوشال منشن" Socialmention، و"آيس روكيت" IceRocket)، أو بناء بيناتٍ منظّمة من محتوى غير منظّم على الإنترنت (مثل "جنيب" GNIPو"داتاسيفت" Datasift اللتين تنقّبان في وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على البيانات، و"إقليم" EQLIM من بيروت و"سيتورا" Cytora اللتين تقومان بالأمر عينه مع التركيز على المخاطر الجيوسياسية، و"برايت" Brate من بيروت التي تقدّم منصّة على الإنترنت لاكتشاف المحتوى الخاصّ بالتوجّهات الاستهلاكية).
يقوم التقدّم التكنولوجي كلّ عدّة سنوات بإحداث ثورةٍ في طرق إدارة الأعمال، مثل إنترنت النطاق العريض broadband والهواتف الذكية التي غيّرَت عالمنا جذرياً. والآن، تستعدّ البيانات الكبيرة للقيام بالأمر عينه، وها إنّ عصرها قد بدأ.