فتح آفاق الابتكار في الشرق الأوسط: استراتيجيات مؤسسية أثبتت نجاحها للاستثمار في عالم ريادة الأعمال
المساهمون في كتابة المقال: كيفن هوليداي (مدير عام) ومهند نور (مدير الإستراتيجية والشراكات)
تحتضن منطقة الشرق الأوسط بعضًا من أبرز صناديق الثروة السيادية في العالم، وقد شهدت المنطقة نشوء منظومة حيويةٍ مواتية لإطلاق مشاريع الاستثمار المشتركة، ترحب بالشركات الناشئة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجع مشاركتهم في هذه البيئة المزدهرة، مدفوعةً بجهود متضافرة لتعزيز التنوع الاقتصادي واعتماد التكنولوجيا على نطاق واسع. وتسهم هذه العوامل المواتية في إنشاء منظومة تدعم المؤسسات والشركات الصغيرة للاستفادة من موقعها الاستراتيجي وتسخير قوة الابتكار من منظور ريادة الأعمال.
وينصب اهتمام المؤسسات والشركات على البحث عن طرق لرسم إطارٍ لاستثماراتها الاستراتيجية، ونشأت مشاريع الاستثمار في تأسيس الشركات “corporate venturing” باعتبارها بديلًا مقنعًا لنماذج التمويل والشراكة التقليدية في المنطقة. ولا تقتصر مساهمة هذا التحول في إطار العمل على إعادة تشكيل المشهد الاستثماري فحسب، بل يعمل أيضًا على تحفيز الابتكار داخل المؤسسات الكبيرة. ومن خلال تبني سبل تعاون متنوعة بين الشركات الكبيرة والشركات الناشئة، تعد مشاريع الاستثمار في تأسيس الشركات بمثابة بوابة للابتكار والوصول إلى التكنولوجيا المتطورة. وتشمل الأمثلة على هذا النوع من الاستثمار الحاضنات والمسرعات المؤسسية وأنشطة الهاكاثون الداخلية والخارجية وتوزيع رأس المال الاستثماري المؤسسي (CVC)، حيث يتم استثمار أموال المؤسسات مباشرةً في شركات ناشئة خارجية.
الانطلاق في مسار رأس المال الاستثماري للمؤسسات
أثبتت مشاريع رأس المال الاستثماري للمؤسسات نجاحها في تعزيز التعاون الدائم بين الشركات الناشئة ومؤسسات الأعمال، خصوصًا في الأسواق المستقرة مثل أوروبا والولايات المتحدة. وفقًا للبيانات الصادرة عن Pitchbook، شاركت مشاريع رأس المال الاستثماري التي أطلقتها المؤسسات الأوروبية في أكثر من خُمْش إجمالي جولات رأس المال الاستثماري الإقليمية في عام 2022. إلى جانب ذلك، تعتد 71% من الشركات المدرجة في قائمة Fortune 500 في الولايات المتحدة بإقامة وحدات فعالة لمشاريع رأس المال الاستثماري لدى تلك المؤسسات.
تتمتع الشركات التي تمتلك وحدات لمشاريع رأس المال الاستثماري المؤسسي (CVC) في كلا المنطقتين بميزة استراتيجية وتنافسية كبيرة، ومن أمثلة دراسات الحالة الناجحة في هذا المجال نذكر فولفو غروب فينتشر كابيتال التي تعمل بوصفها الذراع الأساسي لمشاريع رأس المال الاستثماري لدى شركة السيارات السويدية العملاقة هذه التي استثمرت في “آينرايد” في عام 2019، وهي شركة سويدية ناشئة تختص بالشاحنات الكهربائية ذاتية القيادة لا تزال في مراحل التأسيس المبكرة. وقد تمكنت "آينرايد" منذ ذلك الحين من التحول إلى إحدى شركات اليونيكورن، حيث بلغ إجمالي العقود التي ابرمتها مع عملاء ما يزيد عن 3.25 مليار دولار أمريكي. المزايا التي حققتها فولفو من خلال هذا الاستثمار تتجاوز بكثير حدود المكاسب المالية؛ فقد مهد هذا التعاون الطريق لتطوير حلول النقل المستقلة والمتصلة، بما يتماشى مع التزام الشركة بمعايير الاستدامة.
وعلى الرغم من قدرة بعض مؤسسات الأعمال في الشرق الأوسط على تحقيق نجاحٍ ملحوظ، إلا أن المؤسسات المستثمرة في مشاريع رأس المال الاستثماري لا تزال تشكل أقل من 10% من المستثمرين الفاعلين في المنطقة.
يسهم التعامل الفعال مع الشركات الصغيرة المبتكرة في تمكين مؤسسات الأعمال من الوصول إلى أحدث الاتجاهات الرائدة في عالم التكنولوجيا، ومن الاستفادة من الفرص التجارية المحتملة، ويضمن قدرتها على المنافسة في هذه البيئة سريعة التطور. ويؤكد التبني واسع النطاق للتكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي على ضرورة قيام مؤسسات الأعمال بترسيخ الابتكار في عملياتها، وتعزيز صورة علامتها التجارية وسمعتها. كما تستطيع مؤسسات الأعمال الإقليمية الاستفادة من الاستثمار في الشركات الناشئة واستغلال تلك الاستثمارات في تحقيق أهداف الأجندة الوطنية، وخاصة في مجالات مثل الابتكار والاستدامة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك شركة e&Capital، الذراع الأساسي لمؤسسة e& في مجال الاستثمار في الشركات الناشئة، حيث استثمرت الشركة 5 ملايين دولار في Maxbyte، وهي شركة إماراتية ناشئة تختص في مجال الروبوتات وتركز على حلول وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة (4.0). يدعم هذا الاستثمار مفهوم ريادة الأعمال المستدامة ويعزز عمليات “e&” من خلال التكنولوجيا المبتكرة، ويسهم ذلك بدوره في رقمنة الصناعة التحويلية في دولة الإمارات العربية المتحدة وتحقيق رؤية وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة.
ومن بين شركات الاستثمار الاستثنائية المرتبطة بتحقيق أثرٍ إيجابي شركة الهلال للمشاريع (CE) التابعة بمجموعة الهلال، وهي شركة عائلية رائدة متعددة الجنسيات يقع مقرها الرئيسي في الإمارات العربية المتحدة، ساهمت بقدرٍ كبير في دفع عجلة التنمية الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تركز شركة الهلال للمشاريع على العمل ضمن إطار الاستدامة الذي يعطي الأولوية للإشراف البيئي والأثر الاجتماعي، وتوجه استثماراتها نحو الحلول المدعومة بالتكنولوجيا التي تعالج التحديات الحقيقية وتخلق أثرًا مهمًا في هذا المجال، وقد وزعت الشركة أكثر من 300 مليون دولار في استثمارات شملت جميع أنحاء الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا. ويكمن نجاح الشركة في قدرتها على تحقيق التناغم بين الأولويات التجارية وتحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية. على سبيل المثال، قادت شركة الهلال للمشاريع جولة تمويل مرحلة التأسيس لشركة كيتوبي، وهي شركة ناشئة تختص بالمطابخ الذكية والسحابية القائمة على الاستدامة، لديها أكثر من 1000 موظف وتجاوزت إيراداتها مؤخرًا 100 مليون دولار.
تصدرت الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) في السنوات الأخيرة جدول أعمال مختلف المؤسسات والشركات، وتجسد هذه الاهتمام في نشر 92% من تقارير الاستدامة التي ينشرها مؤشر ستاندرد آند بورز 500. ونظرًا لما حققه هذا الاتجاه، وخصوصًا نجاح مبادرات مثل الهلال للمشاريع، فإن جهود التعاون، التي تسهم في معالجة تحديات الأعمال المعقدة وتحقق في ذات الوقت مؤشرات الأداء الرئيسية المستدامة والمؤثرة، تمنح الشركات وسيلة جذابة لتعزيز المشاركة مع الشركات الناشئة.
تشهد النماذج الناجحة في مشاريع رأس المال الاستثماري للمؤسسات ازدهارًا ملموسًا عندما يتماشى تركيزها مع أولويات الأعمال الأساسية، سواء تضمن ذلك عمليات حالية مبتكرة أو ثورية، وتكون أكثر فعالية عندما يقودها مختصون في مجالي الاستثمار وخلق القيمة، يتعاونون على نحو وثيق مع الإدارة العليا الداخلية. ويتعزز هذا التضافر في الجهود بصورة أكبر عندما يُنظر إليه على أنه استراتيجية طويلة الأجل وليس صندوقًا يطلق لمرة واحدة فحسب، ما يعزز النمو المستدام والمواءمة الاستراتيجية.
الاستفادة من الابتكار المفتوح عن طريق المسرعات المؤسسية
خلافًا لما هو شائع، عند تنفيذ مشاريع الاستثمار في تأسيس الشركات والجهود التعاونية مع الشركات الناشئة بطريقة فعالة، فإنها تمنح المؤسسات الكبيرة فرصة لا تقدر بثمن للوصول إلى الابتكارات المتطورة والأسواق غير المستغلة. وفي ذات الوقت، قد يتمخض عن هذا التعاون الديناميكي تحولات إيجابية في ثقافة المؤسسة. تختص المنصات الريادية من أمثال منصة C3 في تيسير إقامة الشراكات بين المؤسسات والشركات الناشئة وتصميم المبادرات التي تعالج الأثر الملموس وتحديات الأعمال.
ومن الأمثلة التي تبرز في هذا السياق برنامج EGA Ramp-Up الذي يعمل بدعم من منصة C3، وهو مسرع أعمال أطلقته شركة الإمارات العالمية للألمنيوم بالتعاون مع فريق Entrepreneurial Nation. والتزامًا بأهداف الأجندة الوطنية لريادة الأعمال التي أطلقتها الإمارات العربية المتحدة، يوفر هذا البرنامج تدريباً مكثفاً لمؤسسي الشركات الناشئة يتناول الأثر والمبادئ الأساسية في ممارسة الأعمال التجارية، وساهم البرنامج في نجاح البعض في تجربة حلولهم مع شركة الإمارات العالمية للألمنيوم. وتثبت المبادرات الشبيهة بهذه المبادرة كيف يمكن للتعاون الاستراتيجي الذي تعززه البرامج المبتكرة أن يسهم في تحقيق نتائج ملموسة تصب في مصلحة كافة الأطراف.
وقد يدعم التعاون بين المؤسسات والشركات الناشئة الذي تيسره عوامل التمكين في منظومة الأعمال تشكيل ديناميكية فادرة على تحقيق المنفعة لكافة الأطراف: حيث تستفيد مؤسسات الأعمال من المنهجية المرنة التي تتبناها الشركات الناشئة ومن إمكانياتها في مجال الابتكار، في حين تتمكن الشركات الناشئة من الوصول إلى بنية تحتية شاملة على مستوى القطاع وأدوات وخدمات البحث والتطوير الداخلية التي تمتلكها المؤسسة.
تعزيز الابتكار من الداخل: قوة ريادة الأعمال الداخلية في مؤسسات الأعمال
يميل العديد من القادة العالميين إلى تنمية المفاهيم المبتكرة داخليًا، ما يعزز الإبداع لدى فريق العمل وقدرته على حل المشكلات. هذه العملية المعروفة باسم "ريادة الأعمال الداخلية- intrapreneurship" تمتد لتشمل الموظفين الذين يضعون تصورات لمشاريع جديدة أو أفكار قابلة للتطبيق تجاريًا ضمن إطار مؤسسة الأعمال. وعلى الرغم من عدم انتشار هذا المفهوم على نطاق واسع، إلا أن العديد من المنتجات التي نستخدمها يوميًا تولدت من جهود ريادة الأعمال الداخلية، منها على سبيل المثال ملصقات الملاحظات الصفراء الشهيرة، وMacbook، وAmazon Prime.
تشير تقارير برايس ووترهاوس كوبرز على المستوى الإقليمي إلى أن 43% من المؤسسات الكبرى في الشرق الأوسط أنشأت قنوات لدعم وتوسيع نطاق هذه الأفكار المبتكرة داخليًا. تغرس المشاريع الاستثمارية الداخلية الشعور بالملكية والاستقلالية بين الموظفين وترفع مستوى الرضا الوظيفي، مما يساهم في غرس وترسيخ ثقافة التمكين والنمو المستمر.
اتخاذ الخطوة الأولى نحو مشاريع الاستثمار في تأسيس الشركات
كان للبيئة المالية المليئة بالتحديات - التي تتأثر بعوامل عديدة مثل ركود السوق المقترن بارتفاع أسعار الفائدة، وتأثير جائحة كوفيد-19، والشكوك الجيوسياسية المستمرة - أثر بالغ في صرف انتباه الشركات بعيدًا عن الابتكار. ومن المفارقات العجيبة في هذا السياق أن هذه التحديات أدت إلى تفاقم الحاجة إلى الابتكار لتلبية المتطلبات والاحتياجات المستمرة والمتطورة. وقد تواجه الشركات معضلة عند محاولتها الاختيار بين الابتكار الخارجي، مثل تبني مبادرات رأس المال الاستثماري للمؤسسات لتتمكن من الوصول إلى الأسواق، والابتكار الداخلي، ومنه على سبيل المثال اللجوء إلى ريادة الأعمال الداخلية لتحقيق التحول في ثقافة المؤسسة. يتطلب تحقيق التوازن من الشركات تحديد أهدافها والتفكير بعناية في نوع الاستثمار الذي من شأنه معالجة التحديات التي تواجهها على أفضل وجه.
وتتزايد أهمية الابتكار والمنهجيات الذكية بصورة مضطردة، وخصوصًا في الأسواق سريعة التطور التي تنطوي على تحولات ديناميكية في سلوك المستهلك، وتتضاعف فيها المتطلبات التنظيمية الجديدة بصورة مستمرة عبر مختلف القطاعات، ويتحتم فيها العمل بصورة مستمرة للبقاء في المنافسة. وفي ضوء ذلك، تبزر أهمية استثمار المؤسسات في تأسيس الشركات باعتباره أداة تحفيزٍ قوية، قادرة على إرساء دعائم استدامة الأعمال ونموها.