تباطؤ الاقتصاد يهدد فرص ازدهار التكنولوجيا المالية
في ظل تسابق شركات البيع بالتجزئة على اقتحام عالم البيع عبر الإنترنت، والإغلاق المتتالي لمقرات البنوك ومحلات الصرافة خلال الفترة الحالية، تَبرُز التكنولوجيا المالية بوصفها الحل الوحيد للمستهلكين، وأيضاً للشركات التي تسعى إلى تقديم خدماتها المالية.
جاء في تقرير حديث نشرته مجموعة deVere للاستشارات المالية أن تفشي وباء الكورونا العالمي أدى إلى زيادة استخدام تطبيقات التكنولوجيا المالية في أوروبا بنسبة 72%، مما يدل على حدوث طفرة كبيرة في استخدام حلول التكنولوجيا المالية في وقت تعاني فيه معظم قطاعات الاقتصاد مما وصفه صندوق النقد الدولي بأنه أكبر ركود منذ ثلاثينيات القرن العشرين.
وتأتي زيادة استخدام تطبيقات التكنولوجيا المالية وسط نمو عام في استخدام التكنولوجيا الرقمية في محاولة للتكيف مع الحياة في ظل إرشادات البقاء في المنزل. وبينما تنطوي بالفعل حلول التكنولوجيا المالية الحالية على كثير من تدابير التباعد الاجتماعي التي أصبحت الآن أمراً ضرورياً، فإن حالة الإغلاق العام تُسرِّع اتجاهات كانت قد بدأت تتحرك بالفعل، وتدفع قطاع التكنولوجيا المالية إلى البحث عن مزيد من الحلول الإبداعية للمشاكل التي طفت على السطح فيما يتعلق بدعم العملاء وبناء العلاقات والتخطيط للمستقبل.
يقول محمد السعدي، أحد مؤسسي شركة Mamo Pay، وهي شركة ناشئة في الإمارات لتحويل الأموال حصلت مؤخراً على استثمارات بقيمة 1.5 مليون دولار قُبيل انطلاقها رسمياً العام المقبل: "على الرغم من أن الاقتصاد يحيطه قدر كبير من عدم اليقين، ولا أحد يعلم على وجه التأكيد ما ستكون عليه الأمور في الأشهر القليلة القادمة، فإننا حينما نخرج من هذه العاصفة، سوف تكون للتكنولوجيا المالية إيجابيات كثيرة، وسوف تكتسب قوة دافِعَة".
وتُعدّ التكنولوجيا المالية ركيزةً أساسيةً لجميع المعاملات المالية التي تُجرى عبر الإنترنت من جانب خدمات مثل التجارة الإلكترونية وتحويل المرتبات والتخطيط المالي الشخصي. وتعد التجارة الإلكترونية في الوقت الحالي هي مصدر القوة الدافعة للتكنولوجيا المالية في شتى أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أدى إغلاق المتاجر إلى انتقال عمليات الشراء إلى الإنترنت.
يقول مايكل تروشلر، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة FlexxPay في الإمارات والتي تقدم إلى الموظفين قروضاً تُخصم من رواتبهم: "تُعتبر هذه الأزمة بمثابة حافز لإلزام الشركات بالتحول الرقمي. فقد كان ذلك التحول يلقى معارضة من جانب بعض الشركات، ولكنها الآن مُجبرة عليه. فجميع تجار التجزئة الذين لا تسمح لهم الأزمة ببيع أي شيء يسعون الآن جاهدين لبيع كل ما لديهم عبر الإنترنت".
فرصة التباعد الاجتماعي
لم يكن نمو التجارة الإلكترونية طوق نجاة لبعض تجار التجزئة فحسب، بل إنه غيَّر سلوكيات الإنفاق لدى المستهلكين تغييراً جذرياً. وشهدت منصة فوري المصرية الرائدة في مجال الدفع الإلكتروني تحولاً في نوع الخدمات التي يشتريها المستهلكون منذ بدء الأزمة. فقد توقف تقريباً حجز تذاكر وسائل النقل، والمعاملات النقدية لمستخدمي تطبيقيات مثل أوبر وكريم، وحجوزات المباريات الرياضية وغيرها من الفعاليات، ولكن زادت مدفوعات التجارة الإلكترونية بشكل كبير بسبب تقليل ساعات عمل كلٍّ من البنوك والشركات.
يقول جورانج شاه، النائب الأول لرئيس إدارة المدفوعات والمختبرات الرقمية بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في شركة ماستركارد: "إن الوباء العالمي الحالي وما أعقبه من قرارات حكومية وتعليمات من السلطات الصحية يُنبئ بحدوث تحول في سلوكيات إنفاق المستهلكين، فقد صار مزيد من الناس يستخدمون وسائل الدفع التي تُمكِّنهم من الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي".
ومع الإغلاق المؤقت لفروع البنوك، ليس للعملاء خيار آخر سوى اللجوء إلى الخدمات الرقمية، وهو ما يتيح الفرصة لتُعزز البنوك علاقاتها بشركات التكنولوجيا المالية. "إن أي شخص لم يلحق بعدُ بركب التكنولوجيات الرقمية أمامه الآن فرصة كبيرة للحاق بالركب والاستفادة بكل ما يمكن القيام به عبر الهاتف الذكي"، على حد قول كاثرين بود، الشريك المؤسس لشركة Now Money التي تقدم خدمات مالية للعاملين ذوي الدخل المنخفض في دول مجلس التعاون الخليجي، مثل العمال وسائقي سيارات الأجرة وعمال النظافة، الذين عادة ما يتلقون أجورهم نقداً وليس لهم دخل شهري يكفي لفتح حساب مصرفي.
وقد شهدت شركة Now Money نمواً بنسبة 50% شهرياً منذ تفشي الوباء في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن ارتفاع كبير في مستوى تفاعل العملاء الحاليين لأنهم يفضلون البقاء في المنزل. تقول كاثرين: "شهدنا في البداية تباطؤاً طفيفاً من جهة انضمام عملاء جدد على مدى الأسابيع القليلة الأولى، ولكن الآن بدأ الناس يدركون أن هذا الوضع الجديد هو الذي سيسود لبعض الوقت، ونشهد حالياً مزيداً من الطلب من الشركات التي تحتاج إلى طريقة لإدارة شؤونها المالية عند بُعد. وأضافت كاثرين: "معظم الشركات التي نعمل معها سعيدة بأنها انتهت من تغيير إجراءات صرف الرواتب وانضمت إلينا في العام الماضي، فقد جعلها ذلك الآن قادرة على دفع رواتب موظفيها دون الحاجة إلى الذهاب إلى البنك، والأهم من ذلك أن الموظفين لا يضطرون إلى الذهاب إلى أي مكان لتحصيل رواتبهم".
ووفقاً لتقرير "مستقبل التكنولوجيا المالية بعد كوفيد-19" الصادر عن شركة Finch Capital، تتجه المؤسسات المالية حالياً إلى شركات التكنولوجيا المالية بدلاً من الحلول الداخلية لتسريع وتيرة تحولها الرقمي. ومن المرجح أن يزداد إقبال المستهلكين على الخدمات المصرفية الرقمية زيادةً مطردةً، مما يجبر كثيراً من المؤسسات المالية التقليدية على تسريع جهود الابتكار الرقمي.
يقول محمد السعدي: "في العام الماضي، بدأنا نرى تحولاً من جانب الجهات التنظيمية في المنطقة. والآن نرى ذلك التحول أيضاً في كثير من المؤسسات المالية التي تقبلت الواقع الجديد لتكون قادرة على دعم عملائها وتلبية توقعاتهم. ويوجد الآن مزيد من الانفتاح من جانب البنوك لإقامة شراكات مع شركات التكنولوجيا المالية".
التحديات المتزايدة
يقول سعيد حجازي، مؤسس شركة Wally ورئيسها التنفيذي، وهي شركة تأسست في دبي وتقدم حلول لإدارة الشؤون المالية الشخصية: "التكنولوجيا المالية مجال واسع للغاية، وسيكون لكل شخص فيه مزاياه وعيوبه. فإذا كنت أحد الذين يديرون شركات التجارة الإلكترونية، فقد تلاحظ زيادة في الاستخدام. ولكن أداء الشركات يختلف اختلافاً كبيراً من قطاع إلى آخر".
وشركات التكنولوجيا المالية الناشئة التي ركَّزت على التمويل الجماعي أو منح القروض "قد تجد كثيراً من الناس يتخلفون عن السداد"، على حد قول سعيد حجازي. وأضاف سعيد: "هناك كثير من التقلبات، وقد لا ترى نشاطاً كبيراً الآن. وحينما يستهدف منتجك مستثمرين جدداً، فإنهم قد لا يُطيقون التعامل مع هذا التقلب".
كما أن هذا التقلب والتباطؤ الاقتصادي العام قد يعيقان في نهاية المطاف نمو التكنولوجيا المالية، خصوصاً بالنسبة للشركات الناشئة التي تتطلع إلى الحصول على استثمارات. ولأن المستثمرين أصبحوا أكثر حذراً، قد لا تنجو من هذه الأزمة بعض شركات التكنولوجيا المالية التي لا تزال في بداياتها، فقد يؤثر الوباء العالمي على رؤوس الأموال المخاطرة التي تُموَّل بها الشركات الجديدة، وكذلك الشركات القائمة.
وإضافة إلى ذلك، فإن تأثير الانخفاض المتوقع في المعاملات على جميع مستويات الاقتصاد في جميع أنحاء العالم يمثل تحدياً. فقد أدى إلغاء رحلات الطيران وإغلاق المحلات وفرض التباعد الاجتماعي إلى انخفاض حجم المعاملات في كل مكان، ويؤثر ذلك على أرباح شركات التكنولوجيا المالية وعلى تقييمات هذه الشركات أيضاً.
يقول مايكل تروشلر: "سوف ينخفض عدد الذين يسددون فواتيرهم وينفقون المال، وذلك بسبب فقدان كثير من الناس لوظائفهم ومصادر دخلهم. ونتوقع أيضاً تأثيراً سلبياً للأزمة من حيث انضمام شركات جديدة، إنه أمر صعب لأن كثيراً من الشركات أصبح شغلها الشاغل هو النجاة من هذه الأزمة ولا يريدون فعل أي شيء آخر".
واضطرار هذه الشركات إلى التركيز على النجاة من الأزمة ستكون له تداعيات على قطاع التكنولوجيا المالية أيضاً. يقول محمد السعدي: "قطاع التكنولوجيا المالية ليس قطاعاً مستقلاً بذاته، فالمدفوعات المالية تحرك قطاعات أخرى. وعلينا أن نراقب بعناية كيف ستتحوَّل هذه القطاعات، لأن ذلك سيُغيّر أيضاً احتياجات المستخدمين والتجار ومُقدِّمي الخدمات فيما يخص المدفوعات.".
ولكن يبدو بوجه عام أن الكثيرين متفائلون. وعلى الرغم من أن حجم المعاملات سيتناقص على المدى القريب، فمن المرجح على المدى البعيد أن "ترى الشركات الفوائد العملية لإرسال الأموال واستقبالها رقمياً"، على حد تعبير تروشلر، وهذا أمر سوف يستمر بعد انتهاء الوباء.