العملات المشفّرة تُحدث نقلة نوعية في عالمنا المعاصر
إنّ الرأسمالية، أكانت في جميع أشكالها، هي القوة التنظيمية التي تسيطر على النظام الاقتصادي العالمي، وهذه حقيقة غير قابلة للجدال. منذ ثمانينات القرن الماضي -- عندما بدأ الطابع المالي، المعروف بالرأسمالية المتقدمة، يسيطر على الاقتصادات -- أصبحت السلطة والثروة تتمركز، داخل البلدان وفيما بينها، وتهيمنان على هذا النظام.
وقد استفادت المصارف على وجه الخصوص كثيرًا من الرأسمالية المتقدمة - حتى خلال الظروف المأساوية. فقد وصلت أصول المصارف في عام 2008، وهو العام الذي شهد أزمة هددت بانهيار الاقتصاد العالمي بأكمله، إلى 160 تريليون دولار أميركي. وبعد مرور عامين فقط على الأزمة، ارتفعت قيمة هذه الأصول لتصل إلى 200 تريليون دولار أميركي. وليس من الغريب أن تحقق الشركات نجاحاً كبيرًا أيضًا في ظل الأزمة. ففي عام 1980، بلغ إجمالي القيمة السوقية لشركات "S&P 500” المتداولة في البورصات الأمريكية تريليون دولار أميركي فقط. وفي عام 1990، وصلت إلى 3 تريليون دولار أميركي. أما اليوم، فقد وصلت إلى 23 تريليون دولار أميركي.
ومع ذلك، لا يمكن القول بأن هناك من استفاد من هذا الاندماج المتنامي بين السلطة والثروة، كما استفادت الشركات الرائدة في مجال التقنيات. مع نمو شبكة الإنترنت وزيادة استخداماتها، ظهرت شركات تقنية عملاقة مثل "علي بابا" Ali Baba و"فيسبوك" Facebook و"نتفليكس" Netflix، وهي ليست فقط من الشركات التي تملك أعلى قيمة مادية على مستوى العالم، بل أصبحت تسيطر أيضاً على إنتاجية الإنترنت وبيانات المستهلك والوقت الذي يقضيه المستخدمون في تصفح الإنترنت. وفي الوقت الذي تواصل فيه تلك الشركات اكتناز الثروات والسلطات والقيمة المحققة عبر الإنترنت، تحوّلت الانطباعات العامة تجاهها من المدح، باعتبارها أداة تمكين للمستخدمين، إلى الاستهجان، باعتبارها شركات جشعة تسعى لجمع البيانات ونشر الأخبار الكاذبة. ويلخّص مقال "أندريه ستالتز" بعنوان "بداية اختفاء الويب في عام 2014، وإليكم الطريقة" هذا التغير في الانطباعات.
وكما ذكرت في مقالي السابق، كان هدف المتبنين الأوائل للإنترنت ومطوري البروتوكول هو إيجاد شبكة تحقق السيادة الفردية، في صورة عالم افتراضي متحرر يناسب الجميع. لكن الرؤية الأصلية بإنشاء شبكة مفتوحة لا مركزية لم تتجسد على أرض الواقع على الإطلاق. ورغم أننا أصبحنا اليوم أكثر ترابطاً وتمكيناً من أي وقت مضى بفضل الإنترنت، إلا أن هناك بعض الشركات التقنية العملاقة التي تمكنت من جمع البيانات والاستفادة من القيمة المحققة عبر الإنترنت على نحو غير متناسب. وقد يكون المستخدمون أكثر ترابطاً الآن، إلا أنهم أصبحوا بلا شك أقل سيادة من قبل.
وتقترن الفجوة هذه في القيمة الموجودة والمولودة على الإنترنت بفجوة في المهارات والدخل على أرض الواقع، صاحبت السيطرة المتزايدة للمراكز المالية العالمية على حساب سلطة الدولة التي لم يكن لها مثيل من قبل. وتعتمد تلك المراكز والشركات التي تشغلها، على قوى عاملة ماهرة للغاية تقيم في مدن مثل سان فرانسيسكو ولندن وشينزين ونيودلهي ونيويورك وسنغافورة، والتي يتمتع المقيمون فيها بمهارات أكثر تعقيداً ومستويات دخل أعلى بكثير من نظيرتها في المناطق الريفية.
وقد تسببت أوجه عدم المساواة الناجمة عن القطاعين المالي والتقني في كافة الانتكاسات السياسية والاجتماعية. ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أعلنت الفئات المحرومة تمرّدها على هذا الوضع بعدة طرق مختلفة. وكانت العملات المشفّرة أحد أشكال التمرّد المهمة. فعندما نشر ساتوشي ناكاموتو الغامض، الورقة البيضاء لعملة "بيتكوين" Bitcoin في عام 2008، كان ذلك لنفس الغرض المتمثل في تحدي النخبة الحاكمة والنظام الاقتصادي والسياسي القديم والمعيب الذي ظهر بعد الحرب الباردة والذي ترأسته هذه النخبة. إنّ بروتوكول عملة جديدة - العملات المشفّرة - يمكّن المستخدمين من إجراء المعاملات وتبادل المعلومات فيما بينهم دون الحاجة إلى سلطة مركزية للتحقق من صحة ونزاهة المعاملة.
ومن الملاحظ أن عملة البيتكوين، وهي أول العملات المشفّرة الرئيسية، ظهرت في عام 2008 خلال الأزمة المالية التي كشفت اللثام عن الطبيعة الافتراسية للنيولبرالية. وبعدها بفترة قليلة، ظهرت عملة "إيثيريوم" Ethereum، وهي عملة مشفّرة أخرى تقوم على رؤية بيتكوين المتمثلة في تمكين المستخدمين وإلغاء دور الوسيط، وتتمتع هذه العملة بالقدرة على تغيير شكل الشبكات المركزية بفضل مفهوم العقود الذكية والتطبيقات اللامركزية (Dapps) التي تعمل على شبكة إيثيريوم. وثمة الكثير من العملات المشفّرة الأخرى الجديرة بالذكر أيضاً، كل منها مصمّمة لحالة استخدام مختلفة، إلا أن عملتي إيثيريوم وبيتكوين هما الأكثر انتشاراً حتى الآن.
وحتى ندرك مدى قدرة تلك العملات المشفّرة على العمل بطريقة موزعة ولا مركزية، علينا دراسة سلسلة الكتل (blockchain) اللامركزية، ويمكنك تصورها كسجلات تعتمد عليها تلك العملات. وبما أنّ هذه السلسة تمتلك مناعة تشفيرية لامركزية مضادة للاختراق أو القرصنة أو حتى التلاعب، يمكنها مقاومة أي محاولات للتحكم في المعاملات التي يتم إجراؤها من خلالها. وتتيح تلك التقنيات للشبكات إمكانية العمل بصورة مستقلة عن أي جهة فردية أو كيان مركزي. كما أنها تعمل كسجلات موزعة، بحيث تحتوي كل كتلة جديدة تُضاف إلى السلسلة على أحدث نسخة من ذلك السجل، بطريقة تشبه إلى حدٍ كبير عرض الميزانية العمومية لأي شركة للوضع المالي لها في فترة زمنية معينة.
وبالنسبة لعملتي البيتكوين والإيثيريوم ومعظم العملات المشفّرة اللامركزية الأخرى، تتوزع هذه السجلات على عموم المستخدمين ويمكن لأي شخص تنزيلها وهي تعمل كعُقدة ضمن الشبكة. وكلما ازدادت العُقد التي تحتوي على أحدث نسخة من ذلك السجل ضمن أي شبكة، زادت نسبة أمان الشبكة. فإذا كانت لديك 10,000 عُقدة تستخدم نسخاً متطابقة من نفس السجل، لا يمكن أن يؤثر التلاعب بأي عدد من تلك العُقد على سلامة السجل، لأن جميع العُقد الأخرى تحتوي على المعلومات نفسها. في الوقت عينه، إذا تمكنت من اختراق 30% من قاعدة بيانات أي شبكة تقليدية، فإنك تكون قد أثرت على 30% من البيانات الموجودة على تلك الشبكة، استناداً إلى طريقة تخزين تلك البيانات، في حين أنك إذا تمكنت من اختراق 30% من العُقد التي تستخدم سلسلة كتل الإيثيريوم، فلن يؤثر ذلك عملياً على سلامة البيانات لأن بقية العُقد البالغة 70% تحتوي على نسخ متطابقة من المعلومات نفسها. ويُعرف هذا المفهوم باسم "تحمل الخطأ البيزنطي" Byzantine Fault Tolerance (يمكنك قراءة المزيد عنه هنا). وكلما زادت "قدرة تحمل" الشبكة، زادت قوتها ومستوى أمانها. ومن العناصر الأساسية الأخرى التي تتيح للعملات المشفّرة العمل بصورة مستقلة، قدرتها على تنفيذ "العقود الذكية"، بحيث لا تتم المعاملات بين طرفين أو أكثر إلا بعد استيفاء شروط معينة، ممّا يجعلها بمثابة وكيل ضمان بين المشتري والبائع لأصل معين، دون الحاجة فعلياً إلى أي وكيل.
ومن ثمّ، تمثل العملات المشفّرة نقلة نوعية لأنها لا تؤثر على قطاعات معينة فحسب، وإنما على مفهوم الوسيط بين الأطراف المتبادلة للقيم أو المعلومات نفسها، وبالتالي، فهي تغير من شكل العقود الاجتماعية والتجارية السائدة في مختلف القطاعات والموجودة منذ قرون طويلة. وربما يكون القطاع المالي هو أسهل القطاعات تأثراً بتلك التقنيات، إلا أن مفهوم اللامركزية يمكن أن يتوسّع ليشمل جميع صور تبادل القيم أو البيانات القائمة بين طرفين أو أكثر، بدايةً من شبكات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى الحكومات وأساليب الحكم. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الذكاء الاصطناعي والأجهزة المتصلة التي تتواصل عبر تقنية سلسلة الكتل، يصبح لدينا جميع المكونات اللازمة لإحداث ثورة في الاقتصاد السياسي العالمي، مثلما أحدث المحرك البخاري ثورة في مجال السفر. وتتمتع العملات المشفّرة بالإمكانيات اللازمة لتحقيق حلم المطورين الأوائل للإنترنت، وهو: السيادة الفردية والاستقلالية وعدم مركزية السلطة.
وتمامًا كما تستطيع تقنية سلسلة الكتل على إلغاء دور الوسيط في المعاملات، فهي أيضًا تستطيع القضاء على العقود الاجتماعية والتجارية القائمة. فالأمر لا يتعلق بما إذا كانت البيتكوين بديلاً جيداً للبُنى التحتية القائمة بقدر ما يتعلق بتبني آلية جديدة وشفافة تتحدى الوضع الراهن.كما أنّ الأمر لا يتطلب حتى أن تقوم البيتكوين بذلك الدور على نحو جيد، إذ تستمدّ قوّتها وزخمها من انتشار عدم الثقة في الأنظمة القائمة، وليس من قوة البروتوكول نفسه.
سأناقش في مقالي القادم ان حجم الفرصة للعملات المشفرة لتغير أساليب التعامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ضخمة لدرجة ان لا يمكن لعملة واحدة ان تواجه الفرصة لوحدها . كذلك، سألقي الضوء على كيفية فشل عملة البيتكوين لليوم في تحقيق رؤيتها الأساسية كعملة تسوية، وأنها اليوم ليست عملة (بسبب محدودية القدرات التقنية لمعالجة أحجام كبيرة من المعاملات) ولا مستودعاً للقيمة (بسبب التقلب في سعرها المتكرر والفجائي). كذلك، فهي ليست سلعة، ويرجع ذلك إلى أن الرموز البرمجية الأساسية للعملة المشفّرة، على خلاف قوانين الكيمياء الثابتة التي يعتمد عليها الذهب أو السلع الأخرى، ذات منشأ بشري، مما يجعلها عرضة لحدوث تغيرات جوهرية بسبب "التعارضات forks" أو التغيرات في قاعدة الرموز البرمجية. إنها أصل قائم على المضاربة وينبغي التعامل معها على هذا النحو حتى يتم علاج المشاكل المذكورة أعلاه.
كل الشكر والتقدير لعمتي، أمل غندور، على مساعدتها لي في كتابة هذا المقال.