قصة في مدينتين: كيف انتقلت هذه الشركة الناشئة اللبنانية إلى سان فرانسيسكو
منذ أن كان صغيراً يحاول صنع شيءٍ مع قطع الكمبيوتر في مدينته جبيل، عرف إيلي خوري أنّه يريد الذهاب إلى كاليفورنيا.
"لم يكن لديّ فكرةٌ واضحةٌ عن المكان الذي أرغب في الذهاب إليه، حتّى أنّ كلمة ريادة الأعمال لم تكن متداولة في ذلك الوقت،" كما يقول هذا الرياديّ اللبنانيّ من مكان تواجده في مطعم "بيبي عبد" Pepe Abed اللبنانيّ المفضّل لديه، والذي كانت رحلته لوضع شركته "ووبرا" Woopra على خريطة سوق التكنولوجيا التنافسية العالمية طويلة وشاقة.
الانطلاق في لبنان
تخرّج خوري مع زميله في الدراسة جاد يونان في عام 2007 من "الجامعة اللبنانية الأميركية" Lebanese American University، مع مشروع تخرّجٍ يقدّم نموذج تحليلٍ في الوقت الحقيقيّ، فشكّل الأساس للشركة الناشئة التي أسّساها بعد عام.
هذه الشركة التي تحمل اسم "ووبرا" تسمح للمدوّنين والمواقع الإلكترونية والشركات التي تعمل عبر الإنترنت بالتفاعل مع العملاء، من خلال تتبّع سلوكهم أثناء تصفّح الموقع. وبالتالي، تؤمّن هذه التحليلات للشركات والأعمال المعلومات اللازمة لتعزيز حضورها عبر الإنترنت وتخصيص العروض أكثر لاستبقاء العملاء الحاليين وجذب عملاء جدد.
لم يلبث الشريكان أن طوّرا عملهما مع قائمة عملاء عالميين متنامية باستمرار ضمّت شركاتٍ مثل "إيه تي آند تي" AT&T و"فولكس فاجن" Volkswagen. وبعد وقتٍ قصيرٍ على إطلاق الشركة في عام 2007، افتتحا مكتباً لها في تكساس للتعامل مع عدد الزيارات الكثيفة على الموقع والهرب من الإنترنت البطيء وغير الموثوق في لبنان، فكان ذلك أوّل موطئ قدمٍ لهما في الولايات المتحدة، الوجهة التي يحلمان بها.
يشرح خوري هذه الفترة بالقول: "أمضينا أربع سنواتٍ في لبنان ونحن نحاول إنجاح العمل، ولكن أدركنا أنّ أغلب عملائنا موجودون هناك، ومثلما هي الحال إذا كنت لاعب كرة قدمٍ وتريد الانتقال إلى فريق ريال مدريد، انتقلنا إلى [الولايات المتحدة] بدون تردّد لأنّ وادي السيلكون هو المكان المناسب. أحبّ بلدي، ولكنّ ’ووبرا‘ لديها فرصة أكبر للمنافسة إذا كانت في الدوريّ الأهمّ".
انتقل الشريكان إلى سان فرنسيسكو في عام 2012 وبدأت النتائج تظهر في غضون ستّة أشهر تقريباً، وكان النموّ الأبرز في الإيرادات أكثر منه في العملاء، حيث أنّ حجم الصفقات ارتفع 40 مرّة في خلال عامَين على تواجدهما في بلاد العم سام.
"بالطبع يعود هذا إلى عدّة عوامل أخرى إلى جانب تعديل التسعير، ولكنّ مجرّد التواجد في سان فرنسيسكو سمح لنا بالحصول على حساباتٍ تقارب الـ100 ألف دولار وهو ما لم يكن ممكناً في السابق،" يقول خوري.
قرار الانتقال
تشتمل تحدّيات تأسيس عملٍ وبناء فريقٍ في سان فرنسيسكو على عدّة أمور، من بينها المنافسة مع "فايسبوك" Facebook و"جوجل" Google على أفضل الأشخاص، ومنح رواتب مغرية، ودفع إيجاراتٍ مرتفعة، واستبقاء أصحاب المهارات الجيدة (معظم المهندسين في منطقة خليج سان فرنسيسكو يبدلون الشركات التي يعملون معها بعد عامٍ ونصف تقريباً).
ويشير خوري في هذا السياق إلى أنّ "التنافسية في سان فرانسيسكو تجعل من الأمر تحدّياً ولكنّه أيضاً شيءٌ جيد".
التواجد في مركز العالم للتكنولوجيا المتقدّمة يعني أنّه يمكن الوصول إلى بعض أذكى الناس في هذا القطاع، والبروز لجذب عملاء من الطراز الرفيع؛ أمّا أوّل مكتبٍ لـ"ووبرا" هناك فكان في طابقٍ سفليّ عديم النوافذ، ثمّ حاول الفريق إضافة جوٍّ ممتعٍ عبر طاولة بينغ بونغ وُضعت في المكان.
الشريك المؤسّس جاد يونان لم يندم على هذه الخطوة أبداً، غير أنّه يُعرب عن واقعيةٍ من ناحية تطلّب الأمر ساعات عملٍ أطول والتعامل مع قوانين أكثر تشدّداً وتخصيص وقتٍ لمخالطة الناس اجتماعياً.
ويقول من مقرّ إقامته في سان فرنسيسكو إنّ "تنفيذ عملنا هنا أسهل، فأنا أعمل لساعاتٍ أطول ولكن بسرور، كما أنّ الثقافة هنا تقوم على القيام بشيءٍ منتِجٍ والاستمتاع بما تفعله".
البقاء للأصلح
التقى المستثمر اللبناني الذي يتّخذ من سان خوسيه مقرّاً له، إيلي حبيب، برائد الأعمال خوري في عام 2009، عندما كان لا يزال الأخير في لبنان، فأصبح مستشاراً غير رسميٍّ له يزوّده بالنصائح اللازمة خلال الفترات الجيدة والسيئة للشركة.
من الفترات السيئة التي مرّت بها الشركة كانت عندما فقد خوري ملكية الشركة تقريباً لمستثمرٍ في تكساس، حيث اشترى المستثمر مع أصدقاء له حصّة الأغلبية في "ووبرا" مقابل سعرٍ صغيرٍ نسبياً في الوقت الذي كانت فيه الشركة تعاني من نقصٍ في السيولة.
فهم خوري وفريقه ما الذي يحدث للشركة في الوقت المناسب وراحوا يعملون على إنقاذ الشركة، ولكن ليس قبل الموافقة على شراء حصّة المستثمر بحسب العروض التي غيّرها عدّة مرّات. أمّا السبب الذي جعل خوري قادراً على الاحتفاظ بشركته فهو الملكية الفكرية وبرمجة "ووبرا" اللتان كانتا في لبنان، وهو ما لا يمكن للمستثمر أن يمسّه.
وبالتالي استحقّ خوري احترام حبيب بفضل مثابرته وقدرته على تلقي الضربات، بالإضافة إلى نموّ الشركة من لبنان إلى الأراضي الجديدة بموارد قليلة. وبحسب حبيب، "كانت [الشركة] منذ البداية تتجاوز لبنان، وهي التي تقدّم حلّاً كان منذ اليوم الأولّ جذاباٍ على المستوى العالميّ".
"قبل الانتقال إلى كاليفورنيا، كان [خوري] يتواجد بالفعل في الولايات المتّحدة حيث لديه 100 ألف مستخدِم يستعملون الحلّ الذي يقدّمه، كما أنّ مجال التحليلات كان لا يزال ناشئاً. كان توقيتُه رائعاً حقاً - قبل البيانات الكبيرة وقبل الحوسبة السحابية. لقد كان حقّاً في طليعة هذا القطاع، واستطاع على الفور أن يتوجّه نحو العالمية".
سان فرنسيسكو: الأمر صعبٌ لكنّه يستحقّ العناء
كشركةٍ تقدّم خدماتها للشركات الأخرى B2B، يرى خوري أنّ التواجد في سان فرنسيسكو يصنع فرقاً كبيراً في جذب العملاء الكبار.
عندما كان يخطّط للانتقال بين عامَي 2008 و2012، أخذ في عين الاعتبار مراكز تقنية أخرى مثل بوسطن ولندن، لكنّهما بالرغم من ملاءمتهما، كما يقول، ليسا المركز المطلق للتكنولوجيا الذي أراد التواجد فيه منذ البداية.
" دفعني جهلي على الاستمرار،" يذكر خوري، مضيفاً أنّه "لو كنتُ أعلم بمدى تعقيد الأمور ربّما لم أكن لأفعل ذلك. عدم المعرفة بصعوبة الأمور قد يكون نعمة، وأنا أقول للناس دائماً: لا تفرطوا في البحث، فعندما تنطلقون ستتمكّنون مع الوقت من معرفة التحدّي الأوّل الذي يواجهكم، وبهذه الطريقة تكونون تجرون الأبحاث بالفعل".
مع ذلك، لا يشعر الرياديّ الشاب بالندم على قراره، فهو يحبّ العمل بعيداً قليلاً عن بعض أكبر شركات التكنولوجيا في العالم مثل "سايلز فورس" Salesforce و"ليفت" Lyft، كما يحبّ ركوب درّاجته للتوجّه إلى العمل من الحي الإيطاليّ القديم من "الشاطئ الشماليّ" North Beach إلى المنطقة الصناعية السابقة في "جنوب السوق" ("ساوث أوف ماركت" South of Market).
ويشير إلى أنّه مع المجيء إلى سان فرنسيسكو خرج من منطقة الراحة الخاصّة به، فهنا "تبدو الثقافة وكأنّها معاكسة لتلك التي في لبنان. لقد أحببتُ انفتاح المدينة وأحببتُ بساطة الحياة، كما أنّني تأثّرتُ بمدى تواضع بعض الناس المشهورين الذين كانوا يهتمّون للغاية ويعرّفونني إلى الأشخاص المناسبين. كان الأمر بمثابة سلسلةٍ أوصلتني فجأةً إلى شبكةٍ مذهلة من الناس الأذكياء".
وادي لبنان
لبنان الذي تركه الشريكان قبل أربع سنوات ليس لبنان ذاته الذي عاد إليه خوري ليمضي إجازته الأخيرة في التخييم في الجبال وبعيداً عن الإنترنت. فالكثير من الميزات التي يحبّها في وادي السيلكون باتت متوافرةً في وطنه الأمّ، حتّى لو كانت في بداياتها.
"لبنان اليوم يختلف كثيراً عن لبنان قبل خمس سنوات،" يقولها خوري في إشارةٍ إلى البيئة الحاضنة للتكنولوجيا المتنامية في البلاد. ولكنّه ما زال يرى أنّ المهندسين الموهوبين يذهبون إلى الخارج من أجل العمل، أو إذا أرادوا البقاء في لبنان فهم يعملون في وظائف تختلف عن تخصّصاتهم.
وعن هذا الأمر، يذكر خوري الذي اتّخذ الخيار الأوّل وسافر إلى الخارج، أنّ الطريقة الوحيدة التي كان يمكنه فيها العمل في مجال التكنولوجيا المتقدّمة في لبنان كانت في تأسيس شركته الخاصّة. وفيما لم يكن الأمر سيئاً بالنسبة له، إلّا أنّه يشكّل تحدّياً كبيراً في بلدٍ يعاني من هجرة الأدمغة والعمّال ذوي المهارات العالية باستمرار.
بالعودة قليلاً إلى الوراء، لا يُخفي خوري سعادته بمواجهة العقبات في بداية مشواره، والتي ساهمَت في انتقاله إلى الجزء الآخر من العالم. ويُعرب عن ذلك قائلاً: "أن تكون سمكةً كبيرةً في حوضٍ صغير أمرٌ مثير، ولكنّ ما يثير أكثر هو أن تكون سمكةً صغيرةً في المحيط".
"لطالما قلتُ لروّاد الأعمال اذهبوا إلى حيث ترونه مناسباً، ولا تجبروا أنفسكم على البقاء من أجل الشعور بالوطنية فأنتم لا تساعدون بلدكم من خلال البقاء. [وإذا سافرتم] يمكنكم العودة لاحقاً. لا تعرّضوا مستقبلكم للخطر من أجل ردّ الجميل لبلدكم. الدوري الكبير ليس هنا، لذلك أحبّوا بلدكم وردّوا الجميل له، ولكن لت تُجبروا أنفسكم على البقاء".