مساحات العمل المشتركة في العراق: قليلة لكنّها قيّمة
إذا كان يوجد في المنطقة بلدٌ يحتاج فيه رواد الأعمال إلى مساحات عملٍ مشتركة، فهو العراق.
تعمل مساحتا العمل المشتركة في بغداد حالياً تحت ظروفٍ قاهرة: الخطر الدائم من التفجيرات والحوادث الأمنية الخطيرة، والاتّهامات بالليبرالية من قبل الخارجين عن القانون والجماعات الدينية البارزة، والنقص الكبير في الكهرباء، وعملية التسجيل المعقّدة لدى الحكومة.
ولكن بالرغم من كلّ هذا، فهما مصرّتان على الاستمرار ومحاولة لفت أنظار المستثمِرين المحتمَلين ومساحات العمل الإقليمية والمتبرّعين، كما تستمرّان في توفير مساحةٍ لشباب بغداد التقنيين والمبدِعين.
مساحةٌ مشتركة للأعمال التقنية
ظهر اسم "فكرة سبايس" Fikra Space في أواخر عام 2012، حيث كان يفخر المؤسّسون بالقول إنّ مساحتهم من أوائل المساحات المشتركة للأعمال التقنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان هؤلاء يتألّفون من مجموعة شبابٍ تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً، يحملون طموحاتٍ كبيرةً وإمكاناتٍ ممتازة.
وفي صفحتهم على "فايسبوك" Facebook، يقولون عن المساحة إنّها "مكان مفتوح حيث يمكن للأشخاص الذين لديهم اهتمامات مشتركة تتراوح ما بين الحواسيب والتكنولوجيا والعلوم والفن وأيّ شيءٍ آخر، أن يجتمعوا ويتعارفوا، ويتبادلوا المعارف والخبرات، ويبنوا أشياء جديدة أو يستفيدوا من الأشياء الموجودة، وأن يتعاونوا ويقوموا بورَش العمل."
أحد الشركاء المؤسّسين، علي إسماعيل، شرح الصعوبات التي كانوا يواجهونها خلال العامَين الماضيَين، من محاولة تأمين مكانٍ لاستضافة الأعمال إلى تأمين استثمارٍ لإعطاء مساحة العمل دفعةً ما.
لقد قوبلَت محاولات "فكرة" المستمرّة لإيجاد مقرٍّ دائمٍ بسوء الفهم والشكّ غالباً: تحدّث الفريق مع كبار المسؤولين ومع شركات الاتّصالات والمنظّمات غير الحكومية وحتّى مع بعض رجال الأعمال الأغنياء في العراق.
وعن هذا الأمر يقول إسماعيل لـ"ومضة" إنّ "الجزء الأكبر من المشكلة يكمن في أنّ الذين يعرفون قيمة دعم مثل هذه المساحات، خصوصاً الشركات الكبرى، يمتلكون أجنداتهم الخاصّة وأقسامهم للمسؤولية الاجتماعية للشركات CSR؛ يريدون الاحتكار."
حملة مساحة العمل "فكرة" على "إندي جو جو"، في وقتٍ سابقٍ من هذا العام. (الفيديو من Indiegogo)
ويضيف إسماعيل أنّ "الذين لا يعرفون بهذا المفهوم يصعب عليهم فهم إذا كان ذا صلةٍ مع أهدافهم ناهيك عن تأييد مثل هذه المبادرات أم لا، كما أنّ مشاعرهم متناقضةٌ من ناحية التوقّعات."
ويتابع قائلاً: "من ناحيةٍ أخرى، يوجد بعض المنظّمات غير الحكومية التي دعمَتنا في عدّة مناسبات، ولكنّ هذا النوع من الدعم غالباً ما يكون خلال الفعاليات ولمرّةٍ واحدة فقط."
إسماعيل الذي يشارك في تنظيم "ستارتب ويك أند بغداد" بغداد Startup Weekend Baghdad والشريك المؤسّس في "سولو ستوديوز" Solo Studios، كان يحدّثنا من وادي السيلكون حيث يشارك في دورةٍ تقيمها جامعة "سنجيلارتي يونيفرسيتي" Singularity University لتمكين روّاد الأعمال في عملية استخدام التكنولوجيا لمواجهة التحدّيات الكبرى للإنسانية.
مساحةٌ مشتركة للإبداع
يوجد اليوم نوعٌ آخر من مساحات العمل المشتركة في بغداد: مساحات للفنون الإبداعية.
بالرغم من الاضطرابات التي تشهدها بغداد في السنوات الأخيرة، حافظَت هذه المدينة بشكلٍ مذهلٍ على المشهد الفنّيّ فيها. فالمعارض الفنّية ودروس الموسيقى التي انخفض عددها، بقيَت تنبض بالحياة وبنوعيّةٍ ممتازة.
في هذا السياق، تم تأسيس "برج بابل" Burj Babel كمركزٍ للأشخاص المبدِعين الذين ينتشرون في بغداد الكبرى، حيث يمكنهم التلاقي والتعاون على المشاريع والقيام بورش العمل وتبادل الأفكار من اجل التغيير الاجتماعي.
"برج بابل". (الصورة من "فايسبوك")
مؤسّسو "برج بابل" هم أكبر سنّاً من مؤسّسي "فكرة سبايس"، ويمتلكون خبرةً أكثر في إدارة المنظّمات في العراق. وقد استطاعوا أن يجذبوا اهتمام منظّماتٍ دولية ومنظّمات غير حكومية وحتّى اليونيسكو UNESCO، للتعاون في مشاريع وورَش عمل تتناول مواضيع من تطوير الإعلام والصحافة إلى الشعر والموسيقى.
وتقول الشريكة المؤسِّسة، ذكرى سرسم، إنّ "‘برج بابل‘ فاقت التوقّعات من ناحية مستوى نشاط المجتمع المحلّي في بغداد ومستوى مشاركته. وبالتأكيد، سوف تلجأ إلى مزيدٍ من الاستثمارات للانفتاح على غيرها من القطاعات [الاجتماعية]."
مساحات عملٍ مشتركة تتعاون فيما بينها
هذه المساحات لا تعمل على انفراد؛ سواء أسّسها وأدارها شبابٌ متألّقون يواجهون مآزق مع المموِّلين والرعاة، أم كانت مساحة يديرها أشخاصٌ أكثر خبرة، فإنّهما تسعيان لإيجاد مجالاتٍ للتعاون.
ومن الأمثلة على ذلك، أنّه عندما أرادَت "فكرة سبايس" الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لتأسيسها بعددٍ قليلٍ من الأشخاص وبقليلٍ من المال، قدّمَت لها "برج بابل" المكان مجّاناً.
يشترك هؤلاء المخاوف والصراعات والتحدّيات نفسها، مثل عدم وجود الكهرباء، والازدحام المروريّ وسط المدينة بسبب الحواجز الأمنية على الطرقات، والقوانين القديمة، والأهمّ من ذلك التهديدات الأمنية الدائمة.
تناضل مساحات العمل المشتركة في بغداد للبقاء على قيد الحياة، وهي تنير درب المنظّمات المشابهة الأخرى في جنوب العراق وشماله. ومن هذه الأخيرة، هناك "سبايس 44" Space 44 في إربيل (مساحة للأعمال التجارية والتقنية أسّسها رائد الأعمال التقنية محمد السامرائي)، و"ساينس كامب" Science Camp في البصرة (وهي مساحة للصانعين أسّسها عاشق الروبوتات نورس عارف). هاتان المساحتان ما زالتا في بدايتهما وتواجهان تحدّياتهما الخاصّة من حيث الانفتاح الاجتماعيّ على الأفكار الجديدة، ومن حيث أنّ كلتا المنطقتَين محافظتان أكثر من منطقة وسط بغداد.
في وقتٍ يستمرّ فيه روّاد الأعمال في العراق بمواجهة ما يبدو أحياناً خلافات لا يمكن التغلّب عليها، فإنّ مساحات العمل المشتركة مثل "برج بابل" و"فكرة سبايس" باتت أكثر من ضرورة: فهي أماكن حيث يمكن لأصحاب العقليات المتشابهة أن يلتقوا ويتعاونوا، وهي مراكز أفكار للجيل القادم من روّاد الأعمال.