هل تُسقط ثورة الإنترنت سرية البيانات في الشرق الأوسط؟
نزعتان جديدتان في طريقهما إلى خفض سرّية البيانات الكبيرة التي تسود منذ زمن طويل بين حكومات وشركات الشرق الأوسط، وهما إتاحة البيانات أمام الجميع من خلال الإنترنت، وخفض كلفة جمع البيانات وتحليلها ونشرها للعموم.
وبينما تجلب هاتان النزعتان معهما أملاً بشفافيةٍ ومساءلةٍ أكبر، غير أنّهما لا تخلوان من التحدّيات. وتكمن أكبر هذه التحدّيات في زيادة إمكانية النفاذ إلى الاتّصالات السلكية واللاسلكية، ورفع الوعي لدى المواطنين، وإنشاء رقابةٍ شرعيةٍ من أجل الحفاظ على التوازن بين توفّر البيانات بصورةٍ منفتحة وحقوق المواطنين والأمن القومي.
الإنترنت يغيّر الأحكام المسبقة التي أحاطت بسرّية البيانات في الشرق الأوسط. (الصورة من Ero Electronic)
في الشرق الأوسط بشكلٍ عام، لا تتيح الحكومات إلّا عدداً محدوداً من قواعد البيانات أمام عامّة الشعب، مقارنةً بسائر بلدان العالم. كما أنّ المؤسّسات التجارية تفرط هي أيضاً في حماية بياناتها، وذلك لأنّ الشركات الخاصّة منتشرة بكثرة في المنطقة (مقارنةً بالشركات المدرجة في البورصة). وهذا يعني أنّ شركاتٍ كثيرةً لا تجد نفسها مضطرّةً قانونياً إلى الكشف عن معلوماتٍ حول أدائها وأنشطتها التجارية.
أضِف إلى أنّه بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة في بعض البلدان، فإنّ الحكومات تفرض السرّيّة على بياناتها وتحدّ من الوصول إليها، ما يُسفر عن عدم توفّر البيانات بالكميّة والدقة المرجوَّين.
ومن هنا، تمكّن موقع "زاوية" Zawya الذي يوفّر معلوماتٍ حول الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من أن يرصد هذه الفجوة وأن يجني الأرباح منها. وقام بذلك عبر تشكيل فرَق بحثٍ تُعدّ تقارير بحثية حول قطاع وشركات البناء في المنطقة، وذلك في ظلّ قلّة المواقع المشابهة التي تركّز على الأمر عينه. أمّا المصادر الرئيسة للبيانات المفصّلة، فهي عادةً شركات التحاليل الأميركية والأوروبية (أمثال "بلومبورج" Bloomberg و"آي إيتش إس" IHS) التي تعدّ تقارير مكلفةً تستهدف بها رجال الأعمال وصنّاع القرار رفيعي الشأن.
ولكن في المقابل، كلّ ذلك قد يشهد تغيّراتٍ كبيرةً بسبب الإنترنت. فالانتشار المتزايد لتبادل المعلومات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ومنصّات المساهمة الجماعية crowdsourcing (من منتدياتٍ ومدوّنات)، يتيح كمّياتٍ غير مسبوقةٍ من البيانات التي تتنوّع بين أخبار وآراء وتحاليل وغيرها. وفي حين قد لا تتمكّن قواعد البيانات الكبيرة هذه، والمتاحة للعموم، من تغيير قوانين اللعبة بمفردها، إلاّ أنّ تزايد أدوات جمع وتحليل البيانات المفصّلة والمتاحة بتكلفةٍ متدنّيةٍ قد تمهّد الطريق لقفزةٍ نوعيّةٍ كبيرة.
بخلاف ما تتطلّبه عادةً عملية تشكيل فرق البحث البشرية لجمع البيانات وتحليلها وتلخيص نتائجها، فإنّ البرمجيات التي تزداد قدرةً وتوفراً (علماً أنّ جزءاً كبيراً منها مفتوح المصدر) باتت تسمح الآن بالخروج بنتائج دقيقةٍ تلقائياً من متاهة البيانات الإلكترونية التي تبدو غير منظّمة بتاتاً؛ وهي تقوم بذلك مقابل جهدٍ بشريٍّ أقلّ.
من جهةٍ ثانية، لا يبدو مفاجئاً انضمامُ روّاد الأعمال أكثر فأكثر إلى هذه النزعة. فقد بنَت شركاتٌ عدّة، مثل "داتا ماينر" Dataminr و"سايلز فورس" Salesforce و"آي ترند" iTrend، برمجيّاتٍ مؤتمَتة تبحث في البيانات الإلكترونية، للتعرّف إلى نزعاتٍ وتوجّهاتٍ جديرة بالملاحظة وتتعلّق بآخر الأخبار والأنشطة الاقتصادية وآراء العملاء ومشاعرهم وغيرها.
وفي الوقت عينه، تحاول شركاتٌ أخرى بناء قواعد بياناتٍ تتعلّق بالمناطق التي تفتقر إليها، أو التي لا يسعها تحديثها والحفاظ عليها. ومن هذه الشركات مشروع ‘بيانات أحداث ومواقع النزاعات المسلّحة‘ (ACLED) الذي يتتبّع الصراعات وأعمال العنف السياسية التي يتمّ الإبلاغ عنها مع التركيز على أفريقيا بشكلٍ خاص.
ومن الأمثلة الأخرى نذكر "إقليم" Eqlim، وهي شركةٌ ناشئةٌ مقرّها بيروت، تتعقّب المعلومات المتوفّرة علناً على الإنترنت لتراقب أثر الجغرافيا السياسية على الأنشطة الاقتصادية في الشرق الأوسط.
كما أنّ من بين منصّات توفير الحلول الخاصّة بالمساهمة الجماعية التي تُعنى بمثل هذه الأنشطة، يوجد مشروع خريطة الأزمة السورية "سوريا تراكر" Syria Tracker، و"فيرست مايل جيو" First Mile Geo التي أبرمَت شراكةً مع "كيروس أسوشييتس" Caerus Associates لــرسم خريطةٍ للصراع في حلب عبر اللجوء إلى الويب لاستقصاء الناس الذين يشهدون الأحداث مباشرةً.
البيانات تساعد روّاد الأعمال والعلماء والهيئات الحكومية ومؤسّسات الفكر والرأي على فهم الأوضاع في الشرق الأوسط والعالم بشكلٍ أفضل. (الصورة منComputer Weekly)
في حين أنّ هذه التغييرات تضيء بلا شكّ شعلة الأمل بالمزيد من الشفافية، والمساءلة أيضاً في نهاية المطاف، فهي لا تخلو من التحدّيات والمطبّات.
فانخفاض قدرة النفاذ إلى الإنترنت والإلمام بالتكنولوجيا، وبالأخص في بعض البلدان الأقل تقدّماً، يشكّل عائقاً يحدّ من منافع البيانات المفتوحة بالكامل. في العراق مثلاً، يبلغ معدّل انتشار الإنترنت حوالي 8%، ويبلغ أقل من 15% في اليمن و 23% في سوريا، كما أنّ الكثير من بلدان المنطقة تسجّل نسباً متدنّيةً من حيث معدّلات انتشار شبكات الإنترنت المنزلية.
ولربّما يكون العامل المقلق أكثر، هو تعطّش الأجهزة الاستخباراتية والحكومات والكيانات المشابهة إلى هذا النوع من المعلومات. فتداعيات برنامج "بريسم" PRISM الخاص بوكالة الأمن القومي الأمريكية لا تزال تحتلّ عناوين الأخبار الرئيسة، ما يذكّرنا دائماً كم أنّ الحكومات تأخذ جمع البيانات وتحليلها على محمل الجدّ.
وإذا جاز التعبير، فالنزعتَان اللتَان ذكرناهما أعلاه تعملان بمثابة قنواتٍ ممتازةٍ لتحقيق هذه الغايات. وأقلّ ما في الأمر أنّ شركاتٍ مثل "ريكوردد فيوتشر" Recorded Future و"بلانتير" Palantir (وهي شركة ناشئة تساوي 5 مليارات دولار تموّلها وكالة المخابرات المركزية CIA)، تقدّم خدماتٍ تشمل مجموعاتٍ كبيرةً جدّاً من البيانات، وتستخدمها لتوفير أفكارٍ ورؤىً للوكالات الحكومية حول جوانب مثل الإرهاب والتهديدات الإلكترونية.
التغيير يحصل، وقد سبق أن بيّن لنا التاريخ أنّه من المستحيل إيقاف التطوّرات التكنولوجية. ولذلك فإنّ فالحلّ لهذه التحدّيات لا يكمن في الحدّ من النفاذ إلى الخدمات الإلكترونية، كما حاولَت الحكومة التركية أن تفعل مؤخراً؛ ولا في انتظار ألاّ تستغل الحكومات، وغيرها من الجهات، أيّ بياناتٍ مفيدةٍ يمكن أن تطالها أيديها.
وفي المقابل، جزءٌ من الحلّ يكمن في إعداد بنىً تحتيّةٍ كافيةٍ للاتّصالات، من أجل إيصال هذه المعلومات للجماهير، مع زيادة الوعي حول قيمة هذه المعرفة وأهمّيتها. في حين يكمن الجزء الآخر في إرساء حُكمٍ سليمٍ، لتنظيم استخراج البيانات والنفاذ إليها.
وكندا على سبيل المثال، لديها مأمور لخصوصية البيانات Privacy Commissioner، يقضي دوره الأساسي بالحفاظ على خصوصيّة المواطنين. كما أنّ الحكم الذي صدر مؤخراً عن الاتّحاد الأوروبي، والذي يمنح الناس حق أن "ينساهم" موقع "جوجل" Google، يشكّل خير مثالٍ عن الحاجة إلى الرقابة الملائمة وعن فعاليّتها أيضاً.
لا يعني هذا أنّ دول الغرب تشكّل المثال الأعلى ممتازة في هذا الإطار (ففضيحة "بريسم" تبرهن عكس ذلك). ولكن، في الشرق الأوسط، لا شكّ أنّ ثمّة حاجة لإنشاء أطر عملٍ ملائمةٍ للنفاذ إلى البيانات وتحليلها. فمن شأن ذلك أن يسهّل انتهاز هذه الفرصة الهائلة للحصول على المعلومات الكثيرة التي تجلبها هذه التقنيات، وذلك من دون السماح للحكومات باجتياح حياة المواطنين وتضييق قبضتها بصورةٍ غير قانونية على المجتمعات التي تحكمها.