المطوّرون السورين ينزحون نحو دول الجوار حاملين مهاراتٍ مميّزة
روّاد أعمالٍ ومطوّرون سوريّون خلال فعالية "ستارتب ويك آند" Startup Weelend في دمشق (الصورة من "هافنجتون بوست" Huffington Post.)
لقد وضعَت الحرب المستمرّة في سوريا منذ أربع سنواتٍ حدّاً لقطاع التكنولوجيا في البلاد، إذ من بين 3.8 مليون لاجئٍ غادروا البلاد نتيجة الصراعات فيها، يوجد قرابة 80% من مطوّري الويب السوريين الذين كانوا قد دفعوا عجلة البيئة الحاضنة الحديثة والمزدهرة للتقنيّة والشركات الناشئة، بحسب مهنّد غشيم ومحمد حبش. ومن دون هؤلاء المطوّرين، اضطرّ العاملون السوريون في المجال التقنيّ الذين ما زالوا في البلاد، أن يلجؤوا إلى حلولٍ مبتكرة لإنجاز أعمالهم (كما سبق وذكرنا في المقال الأوّل في هذه السلسلة الأسبوع الماضي).
ولكن خارج سوريا، نجد روّاد أعمالٍ متلهّفين لتوظيف مطوّرين سوريين، وفقاً لما يقوله عدّة روّادٍ تقنيّين من مختلف أنحاء المنطقة. وعلى الرغم من ظروف العمل المليئة بالتحدّيات في دول المنطقة التي لجأت إليها الأغلبية الساحقة، بما فيها التمييز في لبنان ومشاكل مرتبطة بالتأشيرة في الإمارات العربية المتّحدة وانخفاض الأجور في كلّ مكانٍ تقريباً، فإنّ المطوّرين السوريين يلائمون القطاع التقنيّ أكثر من نظرائهم العرب من جنسياتٍ أخرى.
لِمَ يتقاضى السوريون أجراً أدنى من نظرائهم العرب؟
يقول حبش، رئيس تحرير موقع الأخبار التقنية باللغة العربية "عالم التقنية" Tech-WD: "اتّجه معظم المطوّرين الذين أعرفهم والذين غادروا سوريا إلى تركيا أو لبنان والبعض إلى مصر، بسبب عدم احتياجهم إلى تأشيرة للذهاب إلى هناك." (مع أّنّ سياسة التأشيرات الجديدة المثيرة للجدل التي تتعلق بالسوريين الداخلين إلى لبنان قد تعقّد الأمور).
وفي حين يحتلّ المال من دون شكٍّ مكانةً أساسيةً في أحلام ومخاوف روّاد الأعمال في كافة أنحاء العالم، فالسوريون الذين غادروا منازلهم "يائسون ومستعدّون للعمل مقابل أجرٍ أدنى،" وفقاً لمهنّد غشيم من "شوب جو" Shopgo. "ثمة ميل [في كافة أنحاء المنطقة] لتوظيف مطوّرين سوريين".
في لبنان وتركيا والأردن والإمارات، "يقبل السوريون أجوراً أدنى بكثير [من نظرائهم من جنسيات أخرى] في مختلف المجالات وليس في التطوير والبرمجة فحسب،" وفقاً لحبش. وبدوره، يضيف غيث العقّاد، الشريك المؤسِّس لوكالة الاتّصالات الرقمية التفاعلية "بيكاسو إنتراكتيف" Picasso Interactive: "أنا أعرف مصمّمين ومطوّري ويب يقبلون بأجورٍ أقلّ بكثير من سعر السوق." ما هي نسبتها؟ "20 إلى 30%" وفقاً لغشيم.
وهذا الأمر يعود لسببين على الأقلّ، أوّلهما الوضع المزري الذي يكونون عليه في البلد الجديد الذي يذهبون إليه، والثاني يعود إلى أفراد العائلة والمجتمع الذي خلّفوه وراءهم في وطنهم الأم. وفي هذا السياق، غالباً ما "يعمل العاملون التقنيون السوريون أكثر وبجهدٍ أكبر" من نظرائهم من جنسيات أخرى "الذين يأخذون مشاريع جانبية ويعملون على أشياء عدّة،" وفقاً لعبد المهيمن الآغا، مؤسِّس نظام إدارة منصّات الويب "حسوب" Hsoub. ويضيف الأغا: "غالباً ما يقبلون بأيّ وظيفةٍ تُعرض عليهم. لكنّنا لا نستغلّ ذلك؛ لا ندفع لهم أقلّ من سعر السوق، لكنّني سمعتُ أنّ آخرين يقومون بذلك."
كما يعود ذلك إلى أنّ المطوّرين السوريين معتادون على "كسب أجرٍ أدنى،" وفقاً للعقّاد. ففي حين يجني مطوّر الويب العادي المبتدئ في لبنان على الأرجح ما بين 700 و800 دولارٍ في الشهر (وفقاً لمطوّر "ومضة"، أيمن فرحات)، كان متوسّط الراتب الشهريّ لمطوّرٍ سوريٍّ مبتدئ قبل الحرب يتراوح ما بين 200 و250 دولاراً، وفقاً لغشيم الذي يتابع قائلاً إنّ " أفضل مطوّرٍ يتقاضى هناك ألف دولارٍ في الشهر." لذا فالمطوّرون السوريون الوافدون إلى لبنان "سيسعدون" ولو مؤقّتاً بتقاضي ضعفَي راتبهم في سوريا، حتّى ولو لن يعيلهم هذا الراتب بالقدر عينه في لبنان، نظراً إلى ارتفاع تكلفة المعيشة.
وعلى الرغم من أنّ روّاد الأعمال يستغلّون المطوّرين السوريين الذين يعانون الصعوبات، يؤمن غشيم بوجود بصيص أمل: "يصل الآن المطوّرون السوريون برأيي إلى أسواق جديدة ويحصلون على خبرات جديدة. لذا فهم يتقاضون منافع أخرى غير المال."
التحديات تولّد الإبداع
أما السبب الثاني والأكثر غموضاً الذي يدفع روّاد الأعمال في المنطقة إلى طلب المطوّرين السوريين، فهو أنّ الصعوبات التي واجههوها في دخول ساحة التقنية على المستوى الدولي قد جعلتهم أفضل وأكثر عزماً وإبداعاً.
وفيما تتوسّع البيئة الحاضنة العالمية للتقنية شيئاً فشيئاً خارج نطاق المراكز التقنية في الولايات المتّحدة وأوروبا ومنطقة شرق آسيا، تكسب منصّات المصادر المفتوحة أكثر فأكثر إقبالاً بين المستخدِمين في عالم تطوير الويب، بسبب انخفاض كلفتها وسهولة استخدامها. وبالتالي، فإنّ الشركات التقنية الراسخة مثل "مايكروسوفت" Microsoft والحكومات على حدٍّ سواء، تنتقل أكثر فأكثر إلى استخدام منصّات المصادر المفتوحة لمواكبة هذه النقلة النوعية.
هذا الرسم البياني يوضح الزيادة العالمية في شعبية الهواتف الذكية التي تشغّلها برمجّيات "أندرويد" Android مفتوحة المصدر.
ويقول غشيم إنّه تبعاً للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتّحدة عام 2011، لم تعد سوريا قادرةً على النفاذ إلى لغات الترميز coding وأدوات التطوير التي تستلزم تراخيص مثل ASP التابعة لـ"مايكروسوفت" و"أوبجكتيف سي" Objective-C التابعة لنظام التشغيل "آي أو إس" iOS. ونتيجةً لذلك، "أصبح المطوّرون السوريون يُعرَفون بتمتّعهم بمجموعات مهاراتٍ معيّنة،" بما فيها لغة ترميز المصادر المفتوحة "بي إيتش بي" PHP و"جافا" Java (لغة البرمجة المستخدَمة لنظام التشغيل "أندرويد" Android). ويعتقد غشيم أنّ "المصادر المفتوحة أمرٌ يشهد نموّاً كبيراً جدّاً في كافة أنحاء العالم." وبالتالي، نظراً إلى سهولة تعامل المطوّرين السوريين مع نموذج تطوير المصادر المفتوحة، فقد يكونون أكثر ملاءمةً للساحة التقنية اليوم من سائر نظرائهم في المنطقة.
ولكنّ العمل في مجال التقنيات كمواطنٍ سوريٍّ، وفقاً لغشيم، "جعلني أدرك أهمّية التكيّف والتغيير وتقبّل الخسارة... ربّما هذا هو السبب الذي من أجله يريد الناس العمل مع السوريين؛ عندما تخسر كلّ شيءٍ ومن ثمّ تبتكر الأدوات اللازمة لتتكيّف، فإنّك تصبح سريعاً للغاية... الحرب بشعةٌ بكلّ أوجهها، ولكنّها جعلَتنا أشخاصاً أكثر مرونةً من سوانا في المنطقة."
ويقول ضاحكاً، "ولكن ربّما أكون متفائلاً جدّاً."
ساهم في هذه المادّة مطوّرا البرامج لدى "ومضة"، أيمن فرحات وعلي قبيسي.