ريادة الأعمال الخضراء.. نحو مستقبل مستدام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
مقال بقلم الدكتورة ستافرولا كالوجيراس، مديرة برنامج ماجستير إدارة الأعمال في كلية إدنبرة للأعمال، جامعة هيريوت وات دبي
ظهر مفهوم ريادة الأعمال الخضراء نتيجةً للمخاوف المتزايدة من الأزمات البيئية التي تتسبب بها السلوكيات والأعمال البشرية، وفي مقدمتها الاحتباس الحراري، والتغير المناخي، وشحّ الموارد الطبيعية، أزماتٌ أثبتت قدرتها على تغيير شكل المنظومة البشرية والاقتصادية في العالم. وريادةُ الأعمال الخضراء -كما يدل الاسم- هي عملية تأسيس الشركات وفق ممارسات ومعايير صديقة للبيئة، يركز فيها رواد الأعمال على تطوير منتجاتٍ جديدة، وطرحها في الأسواق، مع ضمان استدامة شركاتهم، والتزامها بالمعايير البيئية، وسعيها لمعالجة التحديات البيئية. وإذ اليوم باتُ أفراد المجتمع أكثر وعياً تجاه أهمية البيئة، ويرغبون باتباع أنماط معيشة مستدامة، فهذا يعني ارتفاعاً مؤكداً في الطلب على الحلول الخضراء.
سرعان ما وصل هذا التوجه إلى مشهد الأعمال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي ينمو ويتطور بوتيرةٍ متسارعة. فقد أدرك رواد الأعمال في المنطقة ضرورة دمج معايير الاستدامة في نماذج أعمالهم، لتتمحور اليوم حول الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية جنباً إلى جنب مع الجدوى الاقتصادية والأرباح؛ وهذا هو جوهر "الثورة الخضراء" التي تطمح إلى إيجاد اقتصادٍ أخضر يقوم على كفاءة استهلاك الموارد، وخفض الانبعاثات الكربونية، وبناء مجتمع يتسم بالشمولية. وتُعد المشاريع الاجتماعية والخضراء من أهم ركائز هذا الاقتصاد، باعتبارها تشجع على الابتكار وتساهم في مسيرة التنمية المستدامة.
ويؤدي رواد الأعمال الخضراء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دوراً محورياً في طرح الأفكار المبتكرة، وقيادة التحولات، وتغيير ملامح الممارسات القائمة لإيجاد مستقبلٍ أفضل للكوكب بأكمله. أما على الصورة المكبّرة، فتقوم عملية الإنتاج والاستهلاك المستدامة على منظومةٍ متكاملة من الأطر التنظيمية، والشركات، ومبادئ المواطنة. ولذلك، يتطلب نجاح الاقتصاد الأخضر تأسيس شراكاتٍ بين مختلف الجهات المعنية، بما فيها مؤسسات القطاع الخاص، والمشاريع، والمنظمات غير الربحية، والجهات الحكومية، إضافةً إلى توجيه استثمارات القطاعين العام والخاص لتطوير وتوسيع البنية التحتية والأصول اللازمة لتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والموارد، وخفض الانبعاثات الكربونية وعوامل التلوث.
لإيجاد مستقبلٍ مستدامٍ للجميع، لا بدّ من اعتماد حلول طويلة الأمد للمشكلات الراهنة، أولها بناء ثقافةٍ تقوم على التعاون، والمساءلة، والقيادة الفعّالة لمساعي استعادة المناخ. أما في عالم الأعمال، فالشركات مسؤولةٌ عن رسم ملامح المنظور العام للتغير المناخي، وبإمكانها غرس قيم المساءلة الذاتية بين أفراد المجتمع؛ في حين تؤثر المؤسسات الكبرى على حالة البيئة والكوكب بأكمله. كما يبرز الدور القيادي بوصفه عاملاً أخلاقياً حاسماً في إلهام وتشجيع المساعي الخضراء على مستوى العالم، إذ يتعين على المؤسسات الكبرى وطبقة الأثرياء الإقرار بمسؤوليتهم حيال التأثير البالغ لأعمالهم على تلوث البيئة، وتغيير هذه الممارسات ليكونوا قدوةً يُحتذى بها.
وفي هذا الصدد، يشير تقرير منظمة أوكسفام لعام 2024 إلى أن "أصحاب المليارات يساهمون خلال 90 دقيقة في إصدار انبعاثات كربونية تتخطى ما يصدره الشخص العادي طوال حياته"، كما يكشف قائلاً: "يستقل 50 شخص من أثرى المليارديرات في العالم 184 رحلة طيران وسطياً كل عام، بإجمالي 425 ساعة طيران، مساهمين بانبعاثات كربونية تساوي ما يصدره الشخص العادي خلال 300 عام، وما يصدره خلال 860 عام للانبعاثات الناجمة عن اليخوت الخاصة بهم خلال عامٍ واحد". وتؤكد هذه النتائج الفرق الهائل بين البصمة الكربونية لأصحاب الملاءة المالية الفائقة وباقي السكان.
ما يزال التغير المناخي أحد أخطر الأزمات التي تهدد مستقبل البشرية، ولا عجب إذاً أن الناشطين المناخيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعملون دون كلل لتشجيع المستهلكين على شراء المنتجات الصديقة للبيئة، غير أن المؤسسات الكبرى لم تُقرّ حتى الآن إقراراً كاملاً بأنها المسؤول الأكبر عن انبعاثات الوقود الأحفوري. وفي هذا السياق، أكد الاستطلاع السابع والعشرون لانطباعات الرؤساء التنفيذيين الذي أجرته برايس ووتر هاوس كوبرز عام 2024، أن "ما يقرب من 40% من الرؤساء التنفيذيين في العالم لا يعتقدون أن شركاتهم ستكون قابلة للحياة اقتصادياً خلال 10 سنوات إذا استمرت في مسارها الحالي". وقد أظهر معظم الرؤساء التنفيذيين اليوم تقدماً ملحوظاً في مساعيهم لتحسين كفاءة الطاقة (خفض الانبعاثات الكربونية)، وبيع المنتجات والخدمات والتقنيات التي تدعم المرونة المناخية لدى العملاء (جهود التكيف مع المناخ)، والاستثمار في الحلول المناخية القائمة على عناصر الطبيعة. كما يكشف التقرير أن "تحليل أعمال مجموعةٍ من الشركات المعنية بالمناخ، مجتمعةً وكلاً على حدة، أظهر أن الابتكارات المرتبطة بالمناخ تسهم في زيادة الربحية".
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. لاعبٌ أساسي في التحول الأخضر
تساهم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بصورةٍ فاعلة في موجة التحول الأخضر عالمياً، وخصوصاً من خلال خططها استراتيجية لتعزيز الاستدامة وإيجاد اقتصاد صديق للبيئة. وقد برزت دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية بوصفهما أول من وضع هدفاً وطنياً لبناء الاقتصاد الأخضر بين دول مجلس التعاون الخليج، وتحديداً من خلال المبادرة الاستراتيجية للحياد المناخي 2050 ورؤية السعودية 2030، على التوالي. كما تُعد مصر والمغرب من الدول السبّاقة في المسارعة إلى اعتماد موارد الطاقة المتجددة، لا سيما مع وفرة هذه الموارد لديهما، إذ تم إنشاء مجمع نور- ورزازات للطاقة الشمسية في المغرب، ومحطة بنبان للطاقة الشمسية في مصر، وهما اثنتان من أكبر محطات الطاقة الشمسية في أفريقيا.
كما يقع جزءٌ من المسؤولية البيئية في المنطقة على عاتق الشركات الناشئة والمحلية، التي تستطيع المساهمة في التحول الأخضر عبر اعتماد الحلول والعمليات المبتكرة التي تدعم الاستدامة، مثل تطوير المنتجات الصديقة للبيئة، وإدارة النفايات، واتباع منهجيات البناء المستدام.
وجوهرُ هذا التحول الإيجابي ودافعه الأكبر هم المستهلكون، وقد أصبحوا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر وعياً بالسوق الخضراء المتنامية، التي تشتمل على عمليات الإنتاج وسلاسل التوريد الصديقة للبيئة وغيرها. فالعديد من الدراسات تكشف عن تزايد اهتمام المستهلكين بدمج معايير الاستدامة في عاداتهم الشرائية، ورغبتهم بشراء الأنواع المستدامة من المنتجات، حتى لو كانت أغلى ثمناً. وبدورها، تقدم حكومات المنطقة برامج دعم وحوافز ضريبية لتسهيل توافر هذه المنتجات المستدامة على نطاق أوسع وبأسعار أقل. وعليه، لا بدّ للشركات أن تدرك اهتمام المستهلكين المتزايد بالاستدامة، وسعيهم للتحقق من التزامات الشركات بهذه المعايير وشراء المنتجات الصديقة للبيئة؛ وأن تبدأ بمواكبة هذه التطلعات على الفور.
إن التحدي الماثل أمام الشركات ورواد الأعمال اليوم لا يقتصر على بيع المنتجات المستدامة، إنما ينطوي على جانبين: توسيع الأعمال وإحداث أثر إيجابي على الكوكب، وتلبية احتياجات المستهلكين والمتطلبات التنظيمية. فمن المرجح أن تتزايد حاجة المستهلكين إلى حلولٍ مبتكرة تمنحهم نمط حياةٍ أكثر استدامة، وهُنا يبرز دور ريادة الأعمال الخضراء بوصفها ركيزةً فعّالة للانطلاق نحو اقتصادٍ أخضر. وفي الختام، تبقى الآمال بمستقبلٍ أخضر مرهونةً بإحداث تحول جذريّ في الاقتصاد العالمي.