تُقاس قوة الاقتصاد الوطني للدولة بما تمتلكه من عناصر إبداعية وابتكارية، تنعكس بدورها على ظهور منتجات وخدمات جديدة تزيد من الفرص الاستثمارية وتخلق مزيد من فرص العمل، والتي تؤدي لتطور المشهد الاقتصادي بشكل إيجابي، لذلك تعتبر الشركات الناشئة هي أبرز المساندين للاقتصاد الإبداعي بما تمتلكه من تطور سريع ونشاط لمؤسسيها الشباب وتوليد أفكار جديدة التي تُعد المحرك الرئيسي "للاقتصاد الإبداعي" للدولة، فرواد الأعمال هم الفئة الأكبر التي تبتكر وتنمو وتتوسع عن طريق الإبداع، وفي بعض الأحيان تضطر للابتكار بعيداً عن المشهد التجاري والاقتصادي التقليدي لتتمكن من جذب استثمارات لمشاريعهم الناشئة، وقد رأينا ذلك مؤخراً يظهر بوضوح في السعودية، التي تحولت لبيئة خصبة للصناعات الإبداعية خاصة خلال الخمس سنوات الأخيرة، حيث تطورت أفكار رواد أعمالها بشكل غير مسبوق، حتى أن العديد من الشركات الناشئة التي تعمل في مجالات إبداعية حديثة مثل الجيمنج والويب 3 والبرميجات، والروبوتات، والإنتاج الفني والثقافي والإعلامي والواقع الإفتراضي، بدأت تتخذ من المملكة مقراً لها، واستطاعت البلاد جذب مجموعة من الاستثمارات الضخمة للمرة الأولى في تاريخها بذلك القطاع، الذي كاد أن يتحول لداعم رئيسي للاقتصاد الوطني للمملكة.

أهمية الاقتصاد الإبداعي

قبل أن نتطرق إلى المشهد الإبداعي في السعودية، سنتعرف بشكل مبسط على مفهوم الصناعات الإبداعية وعلاقتها بالاقتصاد الإبداعي، توضح مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD، أن الاقتصاد الإبداعي هو فئة تحليلية تشمل مجموعة متنوعة من القطاعات، وتشمل المنتجات التراثية والثقافية، مثل الحرف اليدوية، ويضم مصممي البرمجيات الذين يشكلون الاقتصاد الرقمي ويؤثرون على مستقبل المجتمع بأكمله، حيث تتم عملية توليد وتطبيق الأفكار الإبداعية في سياق تجاري، فهنا يتم الربط بين إنشاء وإنتاج وتسويق المحتويات الإبداعية غير الملموسة ذات الطبيعة الثقافية.

تقول "مي سلامة" الشريك المؤسس في Creative Summit: "هناك فرق بين صناعة الإبداع والاقتصاد الإبداعي، حيث أن صناعة الإبداع مثل الإنتاج والإعلام، أما الاقتصاد الإبداعي فهو كل ما يساهم في النهوض بالاقتصاد من الناحية الإبداعية كالجيمنج والويب 3، وغيرها من الاستثمارات الإبداعية".

تؤكد UNCTAD أن الصناعات الإبداعية يُمكن أن تؤثر على الاقتصاد الوطني من خلال مكافحة البطالة، المساهمة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي والقيمة المضافة، توسيع قاعدة الصادرات الوطنية، جذب مزيد من الاستثمارات، وظهور منتجات وخدمات جديدة مُبتكرة للمرة الأولى، فضلاً عن تدعيم التنمية الاجتماعية والثقافية، تحسين نوعية الحياة، لذلك لن نتعجب عندما نعرف أن الصناعات الإبداعية تمثل حوالي 7% من إجمالي العمالة العالمية خلال عام 2021، ليساهم الاقتصاد الإبداعي بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

يشير "فادي يحيى" المدير التنفيذي لشركة "سبليفت"، السعودية، التي تعمل في مجال التجارب والهوايات، إلى أن الشركات الناشئة العاملة في قطاع الصناعات الإبداعية تساهم في توفير فرص عمل للمواهب المحلية، و تعزيز السياحة الثقافية، من خلال تصميم وتنفيذ وتنظيم التجارب الثقافية، فضلاً عن تفعيل الوجهات السياحية والترفيهية من خلال المواهب الشابة، كما أنها تعمل على تعزيز الابتكار والإبداع من خلال الترفيه والثقافة والسياحة.

ربما ما يؤكد على دور ذلك القطاع في إحياء المشهد الاقتصادي أنه قد وصلت مبيعات التجارة الإلكترونية العالمية من الفنون والتحف إلى مستوى قياسي بلغ 12.4 مليار دولار، وما يؤكد أن الشركات الناشئة والصغيرة التي تعمل في الصناعات الإبداعية تؤثر بقوة على الاقتصاد العالمي هو أن معظم الشركات العاملة في سوق الفنون والتحف العالمية والبالغ عددها 305000 شركة هي شركات صغيرة ومتناهية الصغر، سواء من حيث حجم المبيعات أو الموظفين.  

يوضح "مجدي اللولو"، مؤسس " Grintafy"، وهي منصة تعمل على اكتشاف المواهب بمجال كرة القدم، ومقرها السعودية، أن الرياضة الإلكترونية تساهم في تنمية الاقتصاد الإبداعي، عن طريق التقنيات والابلكيشن التي تساهم في دفع الاقتصاد القومي من خلال زيادة العمليات التجارية والمالية المختلفة التي تتم عبر تلك التقنيات.

 المشهد السعودي

تعتبر الصناعة الإبداعية مساهماً رئيسياً في المشهد الثقافي في السعودية، حيث توفر الثراء والتنوع، لذلك تدرك الحكومة السعودية أهمية هذه الصناعة الناشئة وجعلتها ركيزة أساسية لرؤيتها 2030، حيث تهدف إلى زيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 3%، وتوليد إيرادات بقيمة 20 مليار دولار وخلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030، ولتحقيق ذلك، تستثمر الحكومة في البنية التحتية والمبادرات التي من شأنها دعم نمو القطاع، ويشمل ذلك إنشاء مراكز إبداعية جديدة، وتوفير برامج التدريب والتطوير، وإنشاء شراكات جديدة بين القطاعين العام والخاص.

تضيف "مي سلامة": "بداية من 2020 خلال وقت جائحة "كوفيد 19"، كانت أول مرة يدخل معنا الإبداع السعودي في Creative Summit، كحدث أونلاين إفتراضي ثم في 2021 حيث دشنا موسم كامل للإبداع السعودي في القاهرة، وحضره حوالي 40 خبير من السعودية متخصصين في الإبداع، ، وفي عام 2022 ذهبنا للمملكة، وعقدنا ورش عمل ومسارح وجلسات عمل، وفي فبراير القادم سنعقد هناك منتدى إبداعي جديد".

تؤكد أيضاً أن الحكومة السعودية منحت تمويلات كبيرة لمساعدة الصناعات الإبداعية وتشجيع الشركات الناشئة التي تعمل في ذلك المجال، وهناك شغف عالي واستخدام واسع للموارد في المملكة لكل ما يخص الصناعات الإبداعية.

الرؤية المستقبلية للمملكة هي الإبداع، بهذه الجملة أوضحت "سحر الرقيبة" من فريق إدارة شركة ixmeta، السعودية، التي تعمل في مجال التحول الرقمي في المحتوى الترفيهي والتعليمي والسياحي، أن الإبداع بأوجهه المختلفة يجب دعمه وتنميته بشتى السبل، من خلال منح الرخص المختلفه لفتح نشاطات ومجالات ابتكارية متعددة، حيث أن الشركات الناشئة تُعتبر "الاقتصاد القادم"، وأيضاً "القوة الناعمة" والمحرك الأساسي لتنمية وتطوير شتى أنواع الاستثمارات ليس في السعودية بل بالمنطقة بأكلمها، حيث أنه أصبح لا حدود للأفكار ولا الابتكار، والسوق السعودي واسع وكبير يستطيع أن يستوعب شركات عديدة وأفكار إبداعية جديدة وإن كانت للوهلة الأولى جديدة بعض الشىء. 

تؤكد "سحر" مرة أخرى أن "أكسبو" الرياض من الممكن أن يجعلها الوجهة المقبلة والمستقبلية  لكافة مستثمري العالم.

تستشهد "سحر" بقرار وزارة التجارة السعودية بضرورة وجود مكتب إقليمي داخل المملكة لأي شركة عالمية ترغب في الاستثمار بالبلاد، لأنه سيخلق فرص عمل جديدة للشباب، ويشجع المنافسة فضلا عن المساعدة في كسب السوق لمهارات جديدة.

خلال السنوات الأخيرة شهد المشهد الفني والثقافي انتعاشاً واسعاً، حيث حصل الفنانون السعوديون على تقدم جديد وسريع على الصعيد الثقافي العالمي، وفي نفس العام الذي تم فيه إنشاء وزارة الثقافة، استضافت السعودية أسبوع الموضة العربي الأول على الإطلاق، وفي العام الماضي، كشفت المملكة أيضًا عن جناحها الوطني الجديد في مهرجان كان السينمائي، مما مكن صانعي الأفلام السعوديين من عرض مواهبهم ولقاء قادة الصناعة الدوليين.

من جانبه يؤكد "فادي يحيى" أن حجم الفرص الاستثمارية وأنشطة الشركات الناشئة القائمة على الصناعات الإبداعية بالسعودية ينمو بشكل مستمر ومُتصاعد، والسبب يعود إلى أن البلاد تعمل على تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد الكبير على النفط والغاز، وتركز على تطوير القطاعات الأخرى بما في ذلك الصناعات الإبداعية، فقد شهدت المملكة تطور الاستثمار في الصناعات الإبداعية في المملكة بشكل كبير خلال الخمس سنوات الأخيرة، حيث تجاوز حجم الاستثمار لعام 2022 أكثر من خمسة أضعاف الاستثمار مقارنة بعام 2017 ، والسبب يعود الى وجود قاعدة كبيرة من المبدعين في المملكة، ووجود خطة لخفض نسبة البطالة من خلال زيادة عدد الوظائف في المجال الإبداعي.

تنعكس الهوية الوطنية السعودية في الفن والموسيقى والأزياء في المملكة، وتلعب الصناعة الإبداعية دوراً حيوياً في الحفاظ على هذه الكنوز الثقافية وتعزيزها، كما يساعد القطاع الإبداعي القوي والنشيط على تعزيز صورة البلاد في الخارج وجذب السياح، مع توفير الفرص للسعوديين، أيضاً للتعبير عن إبداعهم وهويتهم، يتمتع هذا القطاع بإمكانات هائلة لخلق فرص العمل التي تشتد الحاجة إليها لجيل الشباب وتوليد إيرادات مستدامة للاقتصاد.

من جانبه يعتبر "مجدي اللولو" أن  الفرص الاستثمارية في المملكة في ذلك القطاع منذ عامين او ثلاثة كانت ضئيلة أما الان فزادت بقوة وهناك تدافع للاستثمارات بذلك القطاع، فالتطور الذي حدث خلال الخمس سنوات الأخيرة بالقطاع الإبداعي زاد حيث أن التوجه استخدام الرياضة والإبداع لتحقيق أهدف رؤية المملكة 2030، وهناك استقطاب للكفاءات والمهارات يتوسع بقوة، وبدأنا نرى التحول للعالمية في بعض القطاعات.

يشرح "مجدي" أنه على الرغم من التحديات التي واجهتهم كمنصة ناشئة للرياضة الإلكترونية فهي تعتبر فكرة جديدة وقاموا بصرف مبالغ تسويقية عالية لشرح فكرة عمل المنصة ودورها في مساعدة المهتمين بمجال الرياضة الإلكترونية و كان الموضوع صعب ولم يكن البعض مُتقبل لتك الفكرة، ولكن... مع الوقت استطاعوا الوصول للعديد من اللاعبين والأندية ومقدمي الخدمات.

يؤكد تقرير The Global Innovation Index، الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، أن أداء السعودية في مدخلات الابتكار أفضل من مخرجات الابتكار في عام 2022، حيث تحتل المملكة المرتبة 37 في مدخلات الابتكار خلال عام 2022، وهي أعلى من عامي 2021 و2020،  أما بالنسبة لمخرجات الابتكار، فتحتل السعودية المرتبة 65 خلال نفس العام، وهذا المركز أعلى من كل من 2021 و2020.

 نظرة مستقبلية

على الرغم من التحديات التي تواجه الصناعات الإبداعية في المملكة إلا أنها لا تُقارن بحجم الفرص الواعدة في ذلك القطاع، الذي أكد العديد أنه قد شهد نهضة مُتسارعة غير مسبوقة خلال الخمس سنوات الأخيرة.

ترى "مي سلامة" أن الاقتصاد الإبداعي في السعودية يسير بسرعة فائقة فالشباب هناك متعطش للإبداع ولديه أفكار متميزة، كما أنهم يتعلمون ويكتسبون مهارات جديدة بسرعة كبيرة للغاية، السعودية قفزت خلال الخمس سنوات الماضية لأكثر من 25 سنة في الإبداع والتطور والشغف.

يتفق معها "مجدي اللولو" الذي يؤكد أن مستقبل الصناعات الإبداعية في المملكة مُبهر والتركيز على الصناعات الإبداعية الآن قوي جداً في البلاد، أتوقع أنه خلال 4 أو 5  سنوات قادمة سيزداد حجم الخدمات والدعم لذلك القطاع بقوة وتتوفر العديد من الفرص الاستثمارية للمهتمين بالدخول فيه.

يعود "فادي يحيى" ليشير إلى أنه على الرغم من بعض التحديات التي تواجه نشاط الشركات الناشئة والاستثمارات القائمة على الصناعات الإبداعية في المملكة مثل التمويل، الموظفين ذوي الخبرة والمهارات، وإمكانيات التوسع، فأن مستقبل نمو وتطور الصناعات الإبداعية في السعودية واعد للغاية وهناك توجه حكومي كبير لدعم قطاع الصناعات الإبداعية والثقافية.

أما "سحر الرقيبة" فتؤكد على أنه بالرغم من بعض التحديات التي واجهتهم كمنصة واقع افتراضي مثل تخوف بعض الشركات والهيئات العاملة بذلك المجال، وصعوبة العثور على المهارات المطلوبة خلال بعض الأحيان إلأ أن الصناعات الإبداعية هي المستقبل والأفق الرحب الذي لا حدود له أبداً، ولا تتفق مع من يقول أن السوق قد يصاب بالتخمة من حجم الاستثمار، والرد عليه هل يوجد حدود لعقل الانسان؟ هل الحجم الجغرافي والموقع المتميز للمملكة ممكن ان يتيغير! طبعاً لا

تضيف: " قبل سنتين كان الواقع الإفتراضي شئ من الخيال ويحتاج لتقنيات مُعقدة ولكن... بيومنا الحاضر أصبح مطلب بسوق العمل بل مطلب أساسي وكبير لما فيه من مميزات عديدة، يمكن ان أغالي واقول لا توجد صعوبات مُبالغ فيها تواجه الصناعات الإبداعية المحلية، لأن السوق السعودي ديناميكي لا يتوقف عند حد معين فهو متجدد دائماً، فالسوق كبير كالمحيط والأفكار الجديدة تنتنافس لتفتح أبواب جديدة للإبداع".  

قد يصبح تشجيع الشركات الناشئة التي تعمل في مجال الصناعات الإبداعية فرصة ذهبية أمام السعودية، التي تتطلع بدورها إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد الواسع على النفط، وهو ما سيساهم بدوره في تشجيع الشركات الناشئة على الدخول في ذلك القطاع بقوة وبدون تردد أو قلق من التحديات التي قد تواجههم، مما يفتح الباب أمام خلق المزيد من الأفكار والمنتجات الجديدة التي تساعد بدورها على تنشيط حركة التجارة وزيادة الصادرات وظهور استثمارات ناشئة تتنافس بالسوق المحلي وتنطلق منه إلى النطاق الدولي، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد الوطني للمملكة ومستقبل رواد أعمالها.