مهارتان تميّزان المبدعين عن غيرهم
لقّب معلمو الريادة بالـ "أسطوريين" لسبب وجيه.
عام 2011، نشر كلايتن كريستنسن وجيفري داير وهال جريجورسن كتابًا ممتازًا عنوانه Innovator’s DNA أي "حمض المبتكرين النووي"، عرضوا فيه دراسةً حول عادات رياديين مبتكرين مشهورين واستطلاعات رأي شارك فيها آلاف الأفراد المبدعين. وقد حدّدوا من خلالها خمس "مهارات اكتشافية" تميّز الأشخاص الأكثر إبداعًا: الترابط، التساؤل، المراقبة، الاختبار والتحاور. وعلى الرغم من أهميّة كلّ من المهارات الخمسة، يركّز هذا المقال حصرًا على المراقبة والتساؤل.
راقب ودوّن الملاحظات
شرح مؤلّفو الكتاب أنّ "الرياديين يترصّدون التفاصيل السلوكيّة بتأنٍّ، عن قصد وباستمرار، تلك التي تتجلى في نشاطات الزبائن والمورّدين وشركات أخرى، من أجل التعرّف بشكل أوسع على مقاربات جديدة في العمل وفي تنفيذ الأمور."
في الحقيقة، يجوز تفسير كلمة مراقبة بعدة طرق وعلى مستويات مختلفة. فثمة المراقبة "العلميّة"، بحيث يضطلع المرء بدور العالم المجتمعيّ، فيمسك بآلة تصوير وبدفتر ملاحظات (أو بهاتف ذكيّ)، ليستكشف العالم، ليراقب الناس على طبيعتهم وفي بيئاتهم، لأخذ الملاحظات والتأمّل واستقاء النتائج المفيدة ذات الصلة. غير أنّ هذه العمليّة تستدعي التمرّس العمليّ في حين انحصرت القدرة على التركيز، في عصرنا، وازدادت مصادر اللهو، ما يحدّ من فرصة تحوّل الغالبيّة إلى محقٌّقين من الطراز الأول. إلاّ أنّنا نحسّن قدراتنا من خلال التكرار والإرشاد.
يبرز نوع آخر من المراقبة غير أنه لا يطبّق كثيرًا. إليكم تلميح عنه من جون كولمن: "غالبًا ما تشكّل القراءة المعمّقة الشاملة خاصية أساسيّة لدى أعظم القادة، وهي قد تحفّز الفطنة والبصيرة والإبداع والتعاطف والتشارك الوجداني والفعاليّة الشخصيّة."
إحدى أشهر المقالات المذكورة على مدوّنة "مجلّة هارفرد للأعمال" Harvard Business Review Blog كان بحثًا قصيرًا ألّفه المؤلّف ستيفن جونسون ونشره بعنوان For Those Who Want to Lead, Read، أي "لمن يبغي القيادة عليه القراءة"، حيث يقول إنّ "القراءة تبقى الوسيلة الأولى لنقل الأفكار والرؤيا المثيرة للإهتمام، فـ بيل جايتس وراي أوزي مثلاً اشتهروا بأخذ عطلات سنوّية مكرّسة للقراءة. وخلال السنة، يقومان عمدًا بتجميع موادّ للقراء، معظمها لا يمتّ بصلة لأعمالهم اليوميّة في "مايكروسوفت" Microsoft، ثمّ يرحلان لأسبوع أو أسبوعين ويغوصان في عوالم الكلمات والأسطر التي اختارا قراءتها."
ذُهلت أيضًا لاكتشافي، عند قراءة قصّة حياة أينشتاين، أنّ النابغة الأكثر شعبيّة في العالم كان يدرس العلوم والفلسفة حين كان في الـ 13 من عمره فقط، ويتذكّر أستاذ أينشتاين في طفولته، ماكس تلمود، "أنّي لم أره يومًا في كلّ تلك السنوات يقرأ كتابًا أدبيًّا سهلاً."
لا شكّ في أنّ القراءة هي السبيل الأنجح لتطوير أذهاننا واكتساب أفكار جديدة، فضلاً عن مراقبة طريقة عمل العظماء، دراسة حياتهم، المقارنة والمقاربة بين شخصيّاتهم الفرديّة ومساهماتهم، ونقل عوائدهم الفضلى لتطبيقها في حياتنا نحن.
اسأل المستحيل
"المهمّة الأصعب والأهمّ لا تكمن أبدًا في إيجاد الأجوبة الصحيحة، بل الأسئلة الصحيحة". كنت قد سألت صديقة تخرّجت للتو من كليّة التعليم في جامعة "هارفرد" عن أهمّ ما تعلّمته، وأجابت قائلةً إنّهم تعلّموا أنّ طرح الأسئلة هو أهم من إيجاد الأجوبة.
تبدأ كلّ الإبداعات بسؤال ليس بالضرورة أن يكون معقّدًا أو لامعًا، لأنّ الأسئلة الأساسية البسيطة والساذجة التي ترغمنا على إعادة النظر في لبّ المشكلة وفهمها، غالبًا ما تكون منبع الإبداعات الكبرى.
أسئلة مثل "لم لا تملك الهواتف المحمولة زرًّا واحدًا؟" قد أدت إلى ابتكار الـ "آيف فون" iPhone! و"لماذا الفصل بين الفنّانين والعالمين؟" قد أدى إلى تأسيس مختبر الإعلام في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT Media Lab، و"هل يمكنني أن أطير كالعصافير؟ هل بإمكاننا تنقيح الصور مباشرة ومشاركتها مع العالم بلحظة واحدة؟ أنستطيع الإستحمام من دون مياه؟ أممكن أن نصنع الخشب من الورق المعاد تدويره؟ أيمكن أن ننتج كتبًا ورقيًّا من دون ورق؟"
يركّز معظم المدراء على استيعاب عمليّة تحسين آليات العمل القائمة، في الوقت الذي يميل فيه المبدعون أكثر إلى تحدّي الإعتبارات والمعتقدات"، وفقًا لـ كريستنسن، داير وجريجورسن. غير أنّ تحدّي الحقائق ليس سهلاً كما يبدو، إذ أنّ تجاربنا غيرت أذهاننا ونظرتنا إلى العالم بشكل جذريّ، ما صعّب علينا عمليّة التفكير خارج "إطارنا". نحن تعلّمنا في طفولتنا أنّ طرح الأسئلة الكثيرة هو من قلّة الأدب، أضف إلى أنّ المدارس غالبًا ما لا تساعد في هذا الشقّ. لكنّ سادة الإبداع هم الأفراد غير المبالين بالحكمة التقليدية، بل هم الأطفال الذين جلسوا يومًا في آخر الصفّ أو تركوا المدرسة، ولم يكونوا راضين عن مجرى الأمور من حولهم.
غير أنّ الوضع لم يكن هكذا من قبل.
عرض برادلي ستيفنز ناحية من ثقافة التعلّم الإسلاميّة التقليديّة في كتابه "ابن الهيثم، العالِم الأوّل" Ibn Al-Haytham: First Scientist، حيث شرح التالي: "كان يُطلَب من الطلاّب المشاركة في مناظرات، وهي مناقشات شبيهة بنموذج المناقشات العصريّة. يطرح المشاركون في المناظرة أسئلة صعبة جدليّة على بعضهم البعض، ثمّ تقاس الإجابات بحسب تماسكها وتناسقها ومنطقيّتها". هذا هو نوع البيئة الذي يقود فعلاً إلى الانفتاح الفكريّ، ولعلّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت لهذا السبب تحديدًا، إحدى أكثر الحقبات الإبداعية في تاريخ الإنسانية.
ما هو السبيل إذًا لتنمية فنّ الملاحظة والتساؤل كعادتين طبيعيّتين ودمجهما في نسيج شخصيّتك؟ اتّبع النصائح الثلاث التالية واجعلها أهدافًا للعام الجديد:
- إقرأ كثيراً: ينصح جون كولمن بالإنضمام إلى نادي قراءة (بإمكانك تأسيس مجموعة قراءة بنفسك)، إنّي أعرف جيّدًا من خبرتي أنّ هذه الطريقة ناجحة بشكل رائع. البعض منشغل أكثر من غيره، إلاّ أنّ تخصيص 30 دقيقة فقط لا غير يوميًّا لقراءة كتاب هو مفيد للغاية، وليس لقراءة مدوّنة إلكترونية أو مقالاً (رغم أهميّتهما). ولا تنسى أن تنوّع بين قراءاتك، فمن يدري من أين تنشأ الأفكار الجيّدة!
- امضِ وقتًا أطول مع الأولاد: يتحلّى المبدعون جميعهم بروح الفضوليّة الطفوليّة التي يلجأون إليها للتساؤل حول أيّ شيء، وأفضل وسيلة لتنمية هذه الفضوليّة تكمن من خلال تمضية وقت مع الأولاد. استمع إلى أسئلتهم، سجّلها، حاول الإجابة عنها، أعد صياغتها وطبّقها في مجال عملك.
- خصّص وقتًا لنفسك: لا تتفاجأ، فشريحة كبيرة من الأشخاص الخلاقين منطوين على أنفسهم ويمضون قسمًا كبيرًا من الوقت بالتأمّل والعمل على انفراد. لا يخفى على أحد أنّ رنين الهاتف المستمرّ والعمل اللامتناهي الذي يملأ نهارنا وليلنا يجعل من المستحيل التمتّع ببضع دقائق غير متقطّعة من الصمت. لذلك، كرّس وقتًا لنفسك على انفراد (أطفئ الهاتف والحاسوب)، واستثمر هذا الوقت لقيلولة، للقراءة والكتابة والتأمّل، أو ببساطة لمشاهدة مغيب الشمس.
المعذرة إن كنت لا أكلّ ولا أملّ من التشديد على أهميّة القراءة. يطلب منا أساتذتنا في الجامعة أن نشكّك دائمًا ونسائل كلّ الموادّ التي نقرأ عنها، وألاّ نسلّم جدلاً (حتى أنّ أحدهم أعطانا عمدًا معلومات خاطئة لكي يختبر ما إذا كنّا فعلاً سنراجع ونتحقّق مما يقوله!).
تغييرات كثيرة مثيرة للاهتمام تطرأ على المنطقة اليوم، لكن علينا أن نولّد ثقافة قراءة وتعلّم مستمرّ داخل مجتمعاتنا، إذا ما أردنا فعلاً بناء مستقبل أفضل لبلادنا. ما من سبيل غير القراءة!